ليست التعددية شعاراً زائفاً نعلّقه على الجدران، ولا المدنية مجرّد زيّ نرتديه في المؤتمرات، ولا العلمنة مجرد ترف من قبيل سقط المتاع. إذ إنه حين تتحوّل الفصائل الراديكالية - التي عرفها السوريون جلاداً لا منقذاً - إلى وحدات نظامية بزي عسكري رسمي، فإننا نكون أمام خرقٍ مركّب: خرقٌ للدستور، وخيانة لفكرة الدولة، وسقوط أخلاقي يصعب رتقه ببيانات مطمئنة أو شعارات مواربة.
ما يحدث اليوم تحت لافتة "الدمج" – وبتحديد أوضح: دمج عناصر أجنبية جهادية كانوا في صفوف "القاعدة"، و"جبهة النصرة"، و"هيئة تحرير الشام"، في الفرقة 84 – هو قفزة فوق القانون السوري الرسمي والأخلاقي، ودهس لما تبقى من شرعة حقوق الإنسان، وتكريس لنموذج عسكري طائفي مغلق، يتغذى من أدبيات الجهاد وشرعية السلاح، لا من العقد الاجتماعي أو قيم العدالة.
إذ كلنا يعلم أنَّ كلاً من هؤلاء الأفراد الذين يُعاد تدويرهم باسم "حماة الثورة"، يحمل في رقبته دماء السوريين – لا على الجبهات ضد النظام، بل في مواجهات دموية ضد المدنيين، وضد كل من لم يركع لرايتهم السوداء. ومن هنا، فكيف يمكن لعقل قانوني أن يمرِّر هذا الانقلاب الصامت؟ كيف يمكن لسكوت النخب، بل وتصفيق بعضها، أن يُقرأ إلا بوصفه خضوعاً لغسيل دماغ جماعي، أُنجز بمحلول جديد: إنه محلول الرخصة الدولية، أو لنقل بوضوح أكثر، "الرخصة الأميركية".
إذا كانت النية المعلنة هي المضي نحو "سوريا جديدة" – مدنية، تعددية، آمنة – فإنَّ العودة إلى فصائل احترفت القتال تحت رايات عابرة للحدود، وتغذّت على دم السوريين أنفسهم، لا يمكن أن تكون جزءاً من الحل. بل إنها استقواءٌ على الداخل بالذين لا ولاء لهم إلا لمشاريعهم الدموية. هؤلاء الذين يُعاد تدويرهم اليوم تحت يافطة "التكامل العسكري"، هم أنفسهم الذين نكّلوا بالمدنيين في إدلب، وأذاقوا السوريين العذاب في دير الزور، وتلاعبوا بخرائط السيطرة لا وفق منطق التحرير، بل وفق منطق الاستحواذ. ولا يمكن الركون إلى من تمرّس على تفكيك المجتمع والفتك به، ولا يمكن إعادة إنتاج الجيش الوطني من مواد خام راديكالية شُحنت بعقائد الحسم والولاء والغنيمة. إنَّ الاستقواء بهذه الأدوات القتالية، التي تستطيع تكرار الكارثة في أي لحظة وفق التوجيه الجديد – كما فعلت نظيراتها في مناطق كالساحل، أو السويداء، وقبل ذلك في عفرين وسري كانيي - رأس العين - ليس سوى إعادة برمجةٍ للكابوس، هذه المرة بلغة مؤسسية.
ثم من قال إنَّ واشنطن تريد فعلاً استقراراً لسوريا؟ من يضمن أنَّ الخطط الدولية لا تهدف إلا لخلق قوى متوازنة على رقعة الموت الطويل؟ أليس في تحويل الراديكالي إلى جندي نظامي سوى تعويم للتطرّف في قالب جديد؟ إن الدولة التي تُؤسَّس على أرضية الخوف، وتعيد تأهيل من استخدم الدين سيفاً، وتفرّق بين سوريين شرفاء ومسلحين وافدين بناء على مدى ولائهم للمتحكّمين بالمشهد، لا يمكن أن تنتمي لمستقبل سوري حرّ. فالعلمانية – المحايدة، الضامنة، الإنسانية – لا تتعارض مع الإيمان، لكنها تقف ضد تحويل الفصائل إلى نصوص مقدسة، والمقاتلين إلى وكلاء الله في الأرض.
كما إن المفاضلة – اليوم – ليست بين "معتدل ومتطرف"، بل بين دولة ولا دولة، بين "حلم محلوم به" و"كابوس مهيمن" وبين مشروع وُلد من عمق الحرية، وآخر خرج من رحم الجهادية واستبدل لحيته بشارة عسكرية، وما زال يحرّك فوهة سلاحه نحو قلب سوريا. مؤكد أنَّ عدم إخراج هؤلاء من سوريا، وعدم محاسبتهم، يشكل خطراً داهماً، حتى وإن تمّت رؤيتهم كأدوات لضبط الداخل أو كحماة لكرسي الحكم في مواجهة فصائل سورية أخرى. المفارقة أن ثمة سوريين، وقفوا منذ البداية في مواجهة نظام الأسد، يتم تهميشهم أو إخراجهم من المعادلة، بينما يُعاد تمكين أولئك الذين جاؤوا من صلب: داعش، والقاعدة، وجبهة النصرة، تحت لافتة جديدة تُخفي خلفها خناجر قديمة، وما هو أشد إيلاماً: مباركة بعض نخبنا السورية التي"صامت" دهراً عن السقوط وراحت تفطر على الماء الآسن ومرق اللحم الحرام.