: آخر تحديث

أدب الروّاد.. وتيهُ الحاضر

5
5
5

لِمَ لا يعود الأدبُ كما كان؟ لِمَ لا نشهد في أيامنا هذه ما كان من سطوة أدب الروّاد وسحره الأخّاذ، ذلك الأدب الذي جذب إليه القلوب والعقول، لا زمنَ إنتاجه فحسب، بل حتى ما تلاه من أزمنة؟! كيف تبدّلت الأحوال، حتى صار القارئ المعاصر ــ رغم وفرة أدواته، وكثرة ما يُتاح له ــ يأنس بالكلمات المتقاطعة أكثر مما يأنس بكلمة تحمل بين حروفها نبض الحياة وشظايا الذات؟! أما الجادّون، فقلّ من يَلجُ باب الأدب أصلاً.

هل بات الأدب غريباً في زمانه؟! وهل فَقَدَ قدرته على التعبير عن روح العصر كما عبّر أولئك الكبار عن أيامهم؟!

إنّ الحركة الأدبية اليوم، بصدقٍ وأسى، ضامرة الجسم واهنة الروح، قليلة في عددها، ومرتبكة في سمتها. ولو صرفنا النظر عن "الكم"، ونظرنا إلى "الكيف"، لوجدنا ما يُبرّر هذا الانصراف عن الأدب. فالمنتج الرديء لا يُغري، والكلمة التي لا تلامس وجدان القارئ، لا تُثمر إلا النفور.

قد يقول قائل إنّ الأدباء الجدد يعبّرون عن زمنهم! نعم... لكن، أيّ تعبير هذا؟! تعبير صامت في سلوكهم، في لهاثهم وراء "المادة"، لا في كلماتهم! لقد ابتُلي الأدب اليوم بزمن يُستَخلَص فيه كل شيء، حتى الإبداع، بمنطق الربح والخسارة.

نعم، يوجد بين الجيل الحالي من الكُتّاب من حُبِيَ بالموهبة، غير أنّه لا يُطيل الوقوف على عتبة الأدب كما فعل من سبقوه، لا يصبر على المعاناة ولا يشتدّ عوده في مواسم الصبر. انشغل كثير منهم بوسائل الإعلام، يُعِدّون البرامج، ويستنزفون طاقتهم في المقالة الصحفية، والتقارير السريعة، التي تُبدَّد فيها نُتف الإبداع ولا يُنصت لها الأدب.

الأدب ــ يا صاحبي ــ لا يرضى بـ "الضرّة"، لا يُقاسِم عاشقه مع سواه. هو عشق غيور، إن شُغِل العاشقُ عنه بغيره، انطفأ فيه وهج الإلهام.

تأمّل في طه حسين، وهو يُثني على توفيق الحكيم لأنّه نذر نفسه للأدب ولم يشتتها في المناصب. تلك كانت شيم الروّاد... كانوا يتألمون لأجل الكتابة، يعانون، يتخلّون عن الكماليات ليظفروا بسطر من نور، وحرفٍ من ضوء. المازني، على سبيل المثال، باع كتبه ليأكل! وحدث أن فَتح ورقة زيتونٍ فوجدها مقطوعة من ديوانه، فأكل الزيتون وحمد الله، دون أن يُقايض الأدب على وجبة طعام.

حتى أولئك الذين ولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب، كأحمد شوقي وشكيب أرسلان، اختاروا الأدب معاناةً وسبيلاً، وابتعدوا عن النعيم المُتاح في بيئتهم.

ولا أُنكر على الأديب سعيه لتحسين معيشته، فهذا حقٌّ مشروع، لكن الأدب، في حقيقته، شجرة ظليلة؛ إن أثمرت كان بها، وإن لم تُثمر، فلا تزال تُفيء عليك بالسكينة والبهاء.

وقد يقول قائل إن الكُتّاب في الغرب يعيشون من عائدات كتبهم، وهذا حق، ولكن الفرق أنّ الإبداع هناك يُنتج بدافع ذاتي، غريزي، كغدة تفرز ما خُلقت له، لا بدافع انتظار العائد. خُذ مثلًا "مارغريت ميتشل"، لم تكن تدري أن "ذهب مع الريح" سيهبّ عليها برياح المال والشهرة. كتبتها بدافع الشغف، ثم لم تكتب بعدها شيئاً يُذكر. المال لم يكن الباعث، ولم يُعد الباعث بعده.

ونعود إلى أحوالنا، فنجد أكثر الأدباء الجدد يبددون طاقاتهم في الصحافة، والإذاعة، والتلفاز. الصحافة، للأسف، صارت مقبرة للأديب، تستهلك جهده ووقته، وتقتل في داخله الرغبة في الكتابة الأدبية العميقة، إذ إن عقل الإنسان ووجدانه لا يتسعان لكليهما.

النتيجة؟ جفاف في الأرض الإبداعية، وكسادٌ في السوق الأدبية، وشكوى عامة من ضعف المستوى، مع محاولات خجولة من بعض الجهات الرسمية لدعم الأدب، وهي ـ على أهميتها ـ لا تُغني عن عشق داخلي، واستعداد نفسي لتحمّل لذّة المعاناة في سبيل الأدب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.