: آخر تحديث

"حديقة" بوريل "وغابات" الآخرين

37
33
29
مواضيع ذات صلة

لا أجد ـ كمراقب ـ وصفًا للتصريحات التي أدلى بها جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، وحديثه عن "الغابة" و"البستاني" و"الجدران العالية" التي يريد أن يحمي بها "الحديقة الأوروبية"، وهي تصريحات تعبر عن نظرة عنصرية بغيضة، ولا يمكن إعتبارها نوعًا من سوء التعبير، فالمسألة لا تتعلق بمفهوم عابر أو مفردة وردت على سبيل "زلة اللسان"، بل إن الرجل يمتلك تصورًا متكاملًا عبر عنه في تصريحاته، وهو تصور ـ لاشك صادم وكارثي ـ ولكن لا يمكن بالأخير التنصل منه، أو الإدعاء بأي مبرر.

لهذا التصريح الكارثي أبعاد مهمة أولها أنه يصدر عن الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، وهو من يعتلي عرش الدبلوماسية في الإتحاد الأوروبي، بكل ما يعنيه ذلك من سمات وصفات واعتبارات مفترضة تليق بالمنصب قبل الشخص، ولو أن هذه التصريحات صدرت على لسان سياسي متطرف لأقامت الدنيا ولم تقعدها فما بالنا بمن يعكس الوجه الأوروبي دبلوماسيًا!

ثاني هذه الأبعاد أن بوريل يشير إلى العالم باعتباره "غابة" ويتحدث عن "غزو" و"بناء جدران عالية" ويقول "أوروبا حديقة، لقد بنينا حديقة، تضم أفضل مزيج من الحرية السياسية والإزدهار الإقتصادي والتماسك الإجتماعي الذي تمكنت البشرية من بنائه"، وأضاف "بقية العالم أشبه بغابة، يمكن للغابة أن تغزو الحديقة، على البستانيين أن يحموا الحديقة ببناء جدران عالية"، وهذا الكلام كارثة بحد ذاته ليس لأنه يقسم العالم إلى حدائق وغابات بكل ما يعنيه ذلك من عداء لفكرة التعاون الدولي والقيم والمبادىء التي تأسست عليها العلاقات الدولية منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، التي ذاقت أوروبا ويلاتها، بل يروج أيضاً لأفكار عنصرية وإنعزالية ويحرض على التعصب والتمييز والكراهية ونبذ الآخر في وقت تعاني فيه البشرية بسبب إنتشار هذه الأفكار، ناهيك عن كونها تصدر من ممثل أوروبا التي لا تكف عن الحديث عن القيم والمبادىء والحريات والتعددية والعيش المشترك وغير ذلك من أحاديث بدت للعالم وكأنها أقنعة بمجرد أن تحدث بوريل!
يبدو أن بوريل لا يدرك أن هذه التصريحات تضر بأوروبا وشعوبها ودولها أكثر مما تضر ببقية العالم، فالفسيفساء الديموجرافي الأوروبي، لا يقبل هذه المواقف البغيضة، ولا يمكن لفكرة "الحديقة" المعزولة أن تصب في مصلحة اليمين الأوروبي الذي يمتلك نفس الرؤية حيال العالم، ما يعني وضع إستقرار أوروبا وأمنها على حافة هاوية في وقت لا تحتاج فيه القارة العجوز أكثر من التماسك والإصطفاف في مواجهة أزمة غير مسبوقة.
هذه التصريحات لن تسقط من ذاكرة البشرية ولا التاريخ، بل ستظل وصمة عار في جبين أوروبا ومؤسساتها، والكارثة الأكبر أن يكون الدبلوماسي الأرفع في الإتحاد الأوروبي على هذا القدر من الضحالة في التعبير وانعدام القدرة على فهم ماوراء الكلمات، وعدم التفرقة بين رأيه الشخصي، ومقتضيات منصبه الدبلوماسي الرفيع، ولذلك لا أتفهم من يحاول تبرير التصريحات بتجاهل مضمونها والقفز مباشرة إلى أهدافها، متناسيًا أن الدبة التي قتلت صاحبها كانت تريد حمايته وليس ايذائه!
شخصيًا، أميل إلى إعتبار التصريحات موقفًا لا يقبل الإعتذار،  لأن جوزيب بوريل حين حاول تقديم "إعتذار" لم يعتذر عن الفكرة من أساسها بل اعتبر أن البعض قد أساء تفسير التشبيه أو الإستعارة وإعتبارها إنعكاس للروح الإستعمارية الأوروبية، ناكراً أن تصريحاته تهين بقية شعوب العالم من دون استثناء، وليس "البعض" ممن شعروا بالإهانة كما زعم، وهذه المحاولة لتفسير الإهانة لم ترتقي إلى حد الإعتذار الصريح عن الحديث كله، بل تضمنت محاولة فاشلة لتفسير تصريحات فاشلة يمتلك بوريل الكثير منها على مدى سيرته المهنية.
جوزيب بوريل اشتهر بسقطاته المهنية، حيث يبدو كحين يتحدث في أدق الأمور السياسية والدبلوماسية حساسية، كمن يجلس على "مقهى" بين أصدقائه فيطلق العنان ليتحدث بما شاء، متجاهلاً عواقب هذا التصريح الخطير الذي لا يمكن بعده للإتحاد الأوروبي أن يرتدي قناع الأخلاق ويحاضر الآخرين عن حقوق الإنسان والقيم والحريات والمساواة والعدالة وغير ذلك من سلسلة طويلة من الذرائع التي تتضمنها تقارير صادرة عن الاتحاد الأوروبي ومؤسساته ضد دول أخرى عديدة.
تصريحات بوريل الذي يصفه البعض بالجرأة، لا يمكن تصنيفها ضمن الحديث الجرىء، بل يندرج ضمن أوصاف أخرى يترفع الانسان عن ذكرها، واستغرب ــ شخصياًـ عدم إدراك الإتحاد الأوروبي لعواقب مثل هذه التصريحات، وتداعياتها المحتملة على علاقات الإتحاد بدول العالم وشعوبه.
وقناعتي أن من حق دولة الإمارات تحديداً أن تغضب وتشعر بالإستفزاز من جراء هذه التصريحات، التي تنسف الكثير من جهود الإمارات الضخمة في نشر قيم التسامح والتعايش بين بني البشر، حيث بذلت الإمارات عبر جهود مؤسسية مختلفة جهداً جبارًا من أجل الدعوة للتعايش واحترام التعددية الثقافية والدينية والعرقية، وترسيخ قيم إنسانية مشتركة بما يسهم في تحقيق الأمن والإستقرار العالميين، والجميع يعلم بهذه الجهود التي توجت بتوقيع اتفاق السلام الإبراهيمي بين الإمارات وإسرائيل، وتدشين حقبة جديدة من السلام والاستقرار في واحدة من أكثر مناطق العالم توتراً، فضلاً عن جهودها في نشر وترسيخ القيم والمبادىء التي تضمنتها "وثيقة الأخوة" الانسانية التي وقعها في دولة الامارات في فبراير عام 2019 البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، والتي استهدفت مكافحة التطرف والتشدد ونشر قيم التعايش والاعتدال والعيش المشترك، فضلاً عن ترسيخ السلام العالمي، ما أثمر عن إعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بالإجماع يعلن يوم 4 فبراير (يوم توقيع الوثيقة في أبوظبي) يوماً دولياً للأخوة الإنسانية، ضمن مبادرة قدمتها كل من دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية، ويُحتفل المجتمع الدولي بهذا اليوم سنوياً ابتداءً من عام 2021، ولذلك لا أجد وجهًا لاستغراب البعض من غضب الإمارات الحاد تجاه تصريحات بوريل.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في