تحتفل المحكمة الجنائية الدولية في هذه الأيام بمرور عشرين سنة على إنشائها، لكن هل هناك ما يستحق إلاحتفال به فعلاً؟ خصوصاً الآن، ووسط ما نعيشه من أحداث؟ فنظرة سريعة حول العالم ستكشف لنا وجود مئات الوحوش الذين إرتكبوا جرائم ضد الإنسانية، ونجوا بأفعالهم دون أن يحاسبهم أحد! فلماذا مثلاً لم يتم توجيه الإتهام إلى بشار الأسد على جرائمه بحق الملايين من أبناء شعبه؟ أو الى قادة الحرس الثوري وأزلامهم حزب الله والحشد والحوثي على جرائمهم في لبنان والعراق واليمن؟ أو الى نوري المالكي على جريمة تسليمه مدن بلاده بساكنيها الى إرهاب التنظيمات والمليشيات الإرهابية؟ أو الى الرئيس الصيني جين بينغ على جريمة تستر نظامه على كورونا والسماح بتفَشّيها حول العالم؟ وأخيراً وليس آخراً الى بوتين الذي إستباح جارته أوكرانيا وشرد وقتل شعبها ولا يزال، كما فعلها من قبل في القرم وجورجيا والشيشان وحتى سوريا؟ ربما لأن العالم لا يزال غير عادل 100%، ولكن أيضاً لأن القانون معقد خصوصاً حينما يتقاطع مع السياسة، إذ يتم في هذه الحالة لي عنقه لتنتصر المصالح والبراغماتية على العدالة والأخلاق. فمن الصعب إثبات الجرائم التي ترتكبها الأنظمة السياسية والتنظيمات المسلحة بدقة في الواقع، من إتخذ القرار؟ ومن أصدر الأمر؟ ومتى؟ كلها تبقى تخمينات وأراء، ما لم يتم إثباتها بأدلة وقرائن تصمد أمام المحاكم والقضاء.
لا يمكن طبعاً إنكار أن المحكمة قامت ببعض العمل الذي يستحق الإشادة والتقدير فيما يتعلق بقلة من الحكام، مثل الزعيمان الصربيان ميلوشوفيتش وكاراديتش، فقد مات الأول في السجن خلال المحامة، فيما حُكِم على الثاني بالسجن المؤبد بتهمة إرتكاب جريمة إبادة جماعية في مذبحة سريبرينتشا التي إستهدفت قتل كل ذكر سليم جسدياً في المدينة والقضاء بشكل ممنهج على الجالية المسلمة البوسنية، كما أتّهِم بالإضطهاد والترحيل القسري والتطهير العرقي فيما يتعلق بحملته لطرد البوسنيين والكروات من القرى ذات الغالبية الصربية. أو الزعيم الكونغولي بوسكو نتاغاندا، الذي ذبح المدنيين وإغتصب النساء وأجبر الأطفال على حمل السلاح، والذي حكمت عليه محكمة لاهاي بالسجن 30 عاماً لارتكابه جرائم ضد الإنسانية. أو مواطنه توماس لوبانغا، الذي نشر الرعب في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وحكمت عليه المحكمة الدولية بالسجن 14 عاماً بتهمة تجنيد الأطفال مع جرمان كاتانغا الذي أدانته المحكمة بالسجن 12 عاماً. أخيراً وليس آخراً أحمد المهدي من مالي الذي أدانته المحكمة بالسجن 9 سنوات مع دفع تعويضات مالية قدرها 2.7 مليون يورو لسكان مدينة تمبكتو لهجومه على مبان دينية وتأريخية . بالإضافة إلى خمسة زعماء ميليشيات من جمهورية أفريقيا الوسطى حُكم عليهم بالسجن لعدة أشهر. كما حاكمت المحكمة العديد من المجرمين المشتبه بهم الآخرين، لكنهم إما هربوا أو ماتوا، وبرأت قلة. لكن أغلب هؤلاء كان لديهم شيء واحد مشترك، هو أن أغلبهم جاءوا من إفريقيا وإرتكبوا فظائعهم هناك، ولهذا كان القبض عليهم ومحاكتهم سهلاً، مقارنة بنظرائهم في دول لا يزال التعامل مع حكامها المجرمين خاضعاً لمساومات السياسة.
لا يمكن أيضاً إغفال بأن هنالك ثغرات قانونية تعيق عمل المحكمة الدولية، منها مثلاً عدم إمتلاكها لسلطة قضائية عالمية. فسلطتها تقتصر فقط على محاكمة مواطني دولها الأعضاء البالغ عددها 123 دولة وما يحدث على أراضيها، إذ لم تصادق العديد من دول على نظامها الأساسي، نعم توجد وحدثت إستثنائات، لكن يجب أن يتم التقدم بطلب للحصول عليها صراحةً من قبل دولة غير عضو، والخضوع لإجراءات معقدة، تتطلب كثيراً من الإحالات القضائية التي ينبغي أن تثبت بـ"الجرم المشهود" حجة تدين المُدّعى عليه، والتي تتطلب بدورها جملة إجراءات قانونية ينبغي على المُدّعي أن يثبتها وفق ما يطلق عليه في الأعراف القانونية بـ"وصف الجناية"، هذا من جانب. من جانب آخر، الإجراءات ذاتها معقدة للغاية، ذلك أن أطراف القضية يجب أن يكونوا حاضرين أثناء تلاوة الحكم وتوجيه الاتهامات. لكن كإجراء بديل هنالك إختصاص قضائي عالمي ضمن ما يعرف بالولاية القضائية العالمية، يمكن بموجبه محاكمة مرتكبي الجرائم الدوليّة بغضّ النظر عن مكان إرتكابها ومكان وجنسية المُدّعي، أو المُدّعى عليه. كما حدث مع مجموعة لاجئين سوريين قاموا برفع قضية في مقاطعة كوبلنز الألمانية، لكون الوصول إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة كان ولا يزال متعذراً أمام أمثالهم، وقد نظرت محكمة المقاطعة بالفعل في القضية وحكم على الضباط السابقين في إستخبارات نظام الأسد بالسجن مدى الحياة بعد إدانتهم بارتكاب جرائم بحق معتقلين، بينها قتل وتعذيب. البعض إنتقد محاكمة شخصين فقط كانا مجرد أدوات، بينما النظام الذي إستخدمهم مايزال على حاله في السلطة ويُعاد تسويقه دولياً، فيما رأى البعض الآخر أنه أضعف الإيمان. لكن حتى هذه الإجراءات ماتزال معقدة وحساسة سياسياً، وإذا نجحت مرة فقد لا تنجح كل مرة. وغالباً ما تتم محاسبة الصغار وترك الكبار، فهذا ما يحدث للأسف منذ قرون ولايزال سارياً الى اليوم، رغم التطورات التي طرأت على القانون الدولي وآليات تنفيذه.
وعودة الى عنوان المقال، لماذا لم يمثل مجرم الكرملين أمام محكمة دولية، رغم أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد أعلن في 2 مارس الماضي فتح تحقيق فوري بالوضع في أوكرانيا حول جرائم حرب التي حدثت فيها؟ والإجابة هي في سلسلة أخطاء سابقة إرتكبتها بعض حكومات الغرب التي أرخت الحبل لبوتين، بدلاً من أن تلفه حول يده وتسوقه من الكرملين الى المحكمة الدولية حينما إرتكب جرائمه في الشيشان والقرم وجورجيا، التي تغاضت عنها لمصالح إقتصادية بات يستخدمها اليوم كحبل يلفه حول عنقها ويهدد به مصالحها ومصالح شعوبها. والإجابة هي في مجموعة أخطاء ترتكب حالياً من الغرب، ربما دون قصد بسبب هول الصدمة، التي لحسن الحظ يتم تجاوزها سريعاً، كما في الإشكالات التي ظهرت في قمة مجموعة العشرين، التي بدا الوضع فيها مختلطاً لأول وهلة، لكن سرعان ما تم تجاوزه بحنكة وحكمة ودبلوماسية.
إذا حصل وتم تسليم بوتين إلى لاهاي ومحاكمته فيها يوماً كمجرم حرب، فسيحدث هذا في إحدى حالتين لا ثالث لهما. الأولى هي تفاقم الصراع الى حرب شاملة ومواجهة عسكرية بين روسيا والغرب تنتهي بإسقاط نظامه وأسره وتسليمه الى لاهاي. والثانية والأكثر إحتمالية وأقل كلفة وخطراً على العالم، هي بالإنقلاب عليه من قبل حكام جدد في الكرملين، عبر إستمرار الضغط الدولي على نظامه. ربما لا يزال هذا السيناريو غير واقعي، لكنه ليس مستحيلاً، إذا بقيَت جبهة الإتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وحلف الناتو متحدة، كما في القمة الأخيرة، وإذا إستمر دعم الحكومة الأمريكية والإتحاد الأوروبي لأوكرانيا عسكرياً وإقتصادياً. من جهة أخرى وحتى لو ظهر خلاف ذلك بسبب أزمة الغاز الحالية، فإن العقوبات تضر بوتين وأتباعه بشدة وتصيب نظامهم الفاسد في مقتل، بدليل أن الكثير من المقربين من بوتين باتوا يتململون ويصفون حربه علناً بأنها خطأ جسيم، كما تفيد تقارير المخابرات البريطانية بأن التذمر قد بدأ يتغلغل بين الجنود الروس، وأن جنرالاتهم باتوا يواجهون صعوبة لإعادة تجميعهم في أوكرانيا من الكتائب التي تم القضاء عليها. لذا الضغط على زعيم الكرملين آخذ في الإزدياد، وربما تسود العدالة يوماً ما، وينتهي الأمر به إلى حيث ينتمي، أي خلف القضبان.