: آخر تحديث

التفاصيل...

42
37
22

ينقطع الإنسان أحيانًا عن العالم المحيط به لا بالجسد بل بالفكر حتى وهو بينهم يسامرهم، يناقشهم، يتفق أحيانًا معهم وأحيانًا يختلف. ولذلك على كُلٍ منَّا أنْ يُدرك أنَّه أحيانًا يُحدِّث أو يجلس قُبالة جُثَّة هامدة محاورة مستمعة. ولكن، ما الذي يُحيلنا بأقل من جزء من الثانية من الحيوية إلى الجمود والاستغراق في مكان اللامكان؟

الإجابة عن هذا السؤال ليست بالعسيرة، إذ تكفي كلمةٌ، أو ابتسامةٌ أو صدى ابتسامة، أو موقف، أو قُبلَةٌ أو غمرةٌ، أو موسيقى أغنية أو كلماتُ أخرى، تسافر بك على غفلة منك إلى زمَنٍ كان فيه لضحكاتك ذلك الصدى، أو مررْتَ فيه بما يشبه ذلك الموقف، أو أُعطيتَ تلك القُبلة أو نعِمْتَ بتلك الغمرة، أو غنيتَ معهم تلك الأغنية أو رقصتَ على نغمات تلك الموسيقى، أو بكل بساطة... قيل لك فيه تلك الكلمة أو الكلمات...

يكفي القليل الذي تُقابله لتَرجِع بأجزاء من الزمن تكاد لا تُحسب في عداد الزمن الواعي، إلى أجزاء بسيطة من حياتك أو أجزاء كاملة، تعود فيها مَنْ تشتاق إليهم، تناجيهم علَّ الروح تصل إليهم عبر الأثير، وقد أثقلَها الحُبُّ الراقدُ تحت رمادٍ تتقدُّ خلاياه بجمر الشوق والفَقْدِ!

يكفي القليل لتشعر بأنَّ الروح فيك ترتحل بعيدة بعد أنْ تلظَّت بدفق سيول من الحِمَم التي غشَّتك أبدًا وأوهمتك أنها إنما هي النبض الذي يروي خلاياك! 
يكفي القليل لتتسلّلَ خلف قُضبانِ الرَّقيبِ فيك الحاجةُ لأنْ تصرخَ بأعلى صوتك علَّ هذا الهمّ الذي يسكن جوانيتك يخرج كهامة هيولة تنفصل عنك بعد أنْ قرنَتك لأكثر مِنْ عقدين!

يكفي القليل لكي تُدرك أنْ العقلانية في معالجة الأمور، والمنطق، والواقعية، لا يلغي الألم الناتج عن الفراق والشوق إلى مَنْ غُيِّبوا عن العين وهم يسكنون أعماق أعماق أعماق الروح لا القلب فحسب...
هو هذا القليل الذي يكفي لأنَّ الأهمية إنما هي للتفاصيل الصغيرة، التي تبني فسيفساء أيامك، ساعد بعد ساعة، يومًا إثر يوم، بعناية وهدوء ورويّة... تفاصيل تتسق بعناية، وتتراص، وتنسجم، وتتكتّل، إلى أنْ تصبح جبلاً من الرخام الجليد يعصى على كُلِّ حياة، أو بركانًا ثائرًا ينثر الموت والأذى، أو جزيرة خضراء وارفة الظلال والثمار والأغاريد...

نعم، إنَّها هذه التفاصيل التي تصل إلى مرحلة تَعصى فيه على كُلِّ علاج، بعد أنْ تحفر ما يلائمها مِنْ أخاديد الوجع والدمع والقلق والعذاب... ولذلك نقف لنقول «لا»، وندافع عن كل ابتسامة ولحظة جميلة، ونحاول كيَّ التفاصيل مِنْ أجل الاِستمرار إذ يُقال بأنَّ آخرُ الدواء الكيَّ، ونحاول ونحاول إيقاظَ الجليد وتزيينَهُ بِألوان الربيع، ونحاول نثْرَ تباشير الحياة فوق حمم الموت... وَعندما نعجزُ بعْدَ أنْ أصبحْنا شبْهَ إنسان وقاربْنَا الاِنهيار وحتى الاِنتحار نُضطرُ مُرغمين إلى الرحيل... نضطر قسرًا لأنَّ الرحيلَ هو الذي سينقِذُ ما يمكنُ أنْ يتمَّ إنقاذه أو بالأحرى «مَنْ» يمكنُ إنقاذَهم، وإنْ اِعتقدَ الناجون أنَّهم هُجِروا أو تُرِكوا...

إنها تلك التفاصيل التي لا يمكن للعاقل أنْ يخوضَ فيها، لأنَّ ما يؤلمُ لن يستحيلَ بلسمًا في يوم من الأيام، واستحضارَ الألم استمرار له، وجلد للنفس، واستسلام لإرادة الموت ولو حيًا كان...
وإنها بعض تلك التفاصيل «السِّيبة» التي تستجديها الذاكرة لأنَّها كانت هي السعادة في يمٍّ من الألم، وهي الفرحة في بحْرٍ من الدمع، وهي الحِلْمُ في محيط من الغدر والرياء...

ولأنها هي التفاصيل كان يكفي القليل، يكفي القليل لكي نتحوَّل من كيان نابض بالحياة إلى جلمود نسيَه السيل شكلاً، وقرَّرَ بعد أنْ حطَّه السيلُ من عَلِ أن يتدحرج نحو العلا، وأنْ يعلو السيل مَرْضِيَّ الضمير، وأن يعلو السيل ثابتَ الإيمان، وأنْ يعلو السيل لينشر الحياة ويبشِّر بها، ليعلو السيل ويقول أنَّهُ علا السيلَ منْتظرًا مَنْ تشتاقُهم العينُ وتناجيهم الروحُ أن يُطلوا كطلّة شموسٍ حجبتْهم عيونٌ ظالمة مستبدة... 


 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي