: آخر تحديث

وبعد أنْ غادرَنا القلمُ... عاد...

43
48
43

    وبعد أن غادرَنا القلمُ... عاد...
عاد في أثرٍ يرسم مَعَالم الطريقِ المثمرِ! عاد في بسمةِ أملٍ ترْقُبُ الفجر الجديد! عاد في عبورِ الجسرِ إلى اليوم المنتظر! عاد في تنهُّدات شهيقٍ يتلمَّسُ دربَ الحريَّة!
    عاد وقد تيقَّنَتِ الرصاصةُ أنْ لا سلاحَ أقوى مِنَ الكلمة، مِنَ الفكر الحُرِّ الناقد المُدرك، مِنَ السؤال عن السبب والغاية، مِنَ اليقظة في عيون الناظر المتأمِل، مِنَ النور التوّاق للسماء، مِن أشعة الشمس، مِن أفاق الأحلامِ، مِن مستقبلٍ منظورٍ، مِنَ الكلمة وقد سُطرت على ورقة طالب يخطو خطوتَه نحو الغد! 

عاد وقد تيقَّنت القيود أنَّها لم تُصنع إلاَّ لتُكسَرْ، وتيقَّنت الطبول أنَّ ما فيها إلاَّ الفراغ، وأنَّ الجعجعة لا تُطعمُ جائعًا ولا تروي ظمآنًا!
عاد القلم ليحاكي الشاعر الغافي في ظِل ياسمينٍ نبتت على أزهاره الأشواك، فألبسها دمه الجاري في أخاديد الآلام حتى لا تقوى فيه على الروح! عاد ليَسطُرَ ألافَ اللوحاتِ التي استلهمَتِ من الدمِ احمرارَ خدَّينِ لكلمةِ حُبٍّ عَزَفَتْ على شغاف القلب! عاد ليعزفَ ألحانَ الحياة وبديعَها في تجدُّدِها الدَّائمِ الذي يُطيحُ بالجلمود! عادَ ليفَتِّتَ القلاعَ ويُزيحَ الجبالَ ويرفعَ فوق قمَّةِ النَّصرِ انتصاراتِ الحياةِ في أنْ تقولَ للظُّلمِ «لا»!
عاد بعد أنْ أذاقَ غيابُه المرارةَ، وَسَقى كينا الدواءَ! 
عاد ليحضنَ الكفَّ الرّاجفَ مِن تعبِ الظُلْمِ والشقاءِ والاستبداد، يحضنَه ليكتبَ في أعلى صفحة جديدة أنَّ الحياةَ إنَّما هي للأقوياء، لأحرار الضمير، لمن لا يخشى أنْ يقدّس في اللغة حرفَيْنِ اثنين: الألف واللام؛ «لا»! 

عادَ ليقول إنَّ الأرض هي الجنَّة وإنَّ الأرض هي النار؛ وإنَّ الشيطانَ إنسانٌ!
عاد لأنَّه هو على كُلِّ شيءٍ شهيد؛ يكتب ما يخرج من الفِكْرِ على اللسان، ويُضمِرُ ما تحويه النوايا! 
في وضوحِهِ كما «الخربشات»، يرسم حدودًا، ويُعلي قصورًا، وينقِّطُ أحلامَ الطامحين والطامحات، ويحرّكُ عجلةَ الزمنِ سنواتٍ إلى حيث هو الآت!

عاد حتى يبقى في الأرض عرقٌ ينبضُ لِبرعمٍ يشقُّ عتمةَ التراب؛ لِوردةٍ أصرَّت على أنْ تُتْبِعَ الأشواكَ بالعشقِ والحُبِّ وَالولَه والغيرة وحتى المناكفات؛ لطفلٍ خطا خطواته الأولى وقبل أنْ يقع تحضنُهُ الأمُّ وتطمئنه إلى أنَّ السلامة هي نصيبه من الأشياء!

عاد القلم؛ بل عاد وعاد وعاد ليُثبتَ أنَّ فينا طبعًا من إله نفخ فينا مِن روحه، وزرع فينا حبَّ الكلمة رغم الرعونة، وتوْقَ المعرفة رغم مشاعر العجز، وشوقًا إلى مجهول لا يأتي، ويقينًا قِوامه الشك؛ من إله أنشأ في جوانيتنا عصافيرَ وغُربانًا، وحُملان وذئابًا، وعطاء وأنانية، وضياء وظلمات؛ من إله غرس فينا بوصلةً تُشير إلى العقل الرشيد، ذاتية التعطيل بإرادة آدم الحُرّة، تميل بسهمِها من قُطبٍ مُنيرٍ إلى قُطبٍ جماد إلاَّ من سواد ثلجٍ راكمتْهُ شرورٌ تقصَّدَها، وهندسَها، وعاش في نَشْوتِها؛ مِنْ إله أنبَتَ الجمالَ وقطَّرَنا خلاصَتَهُ، وأرسل الموجَةَ وحاكَنَا مدَارَها وتردُّدَها وارتدادَها، وضبَطَ الأفلاكَ وأرْسى محاكاتَها فينا، أجرى فينا الفناءَ ونبعَ الخلودِ يتفجَّرُ فينا، شذَّبنا بالحرِّية وحكَمَنا بالعقلِ وأهدَانَا للمحبَّة؛ إله منه الكلمة وله، وَمِنْهُ وإليه، ولا قِبلةَ إلاَّه، الله الربُّ القدير الخالقُ بِالكلمةِ صناعةً دلَّتْ عليه وأدالتْ له القلوب بالعقل السائر على السبيل...
عاد القلمُ لأنَّ الكلمة التي بها كان الكون، سبقتِ الوجود، وستبقى بعده...  
عادَ القلمُ وعادَ وعادَ... لينحتَ من اللغةِ أيقونةَ «لا»...


 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في