لم تسلم قُصص الأمم من أوجاع الغربة وآهات الغريب، فقد احتوت القصص والشعر والروايات، وكنوز المعرفة المختلفة الكثير من الأصوات الخفيّة لأنين المعذبين، وهمهمة المرضى بالأوطان، وشكوى جور الزَمان.
صارت الغربة فلسفة إجبارية للشكوى والكرب وعبرات الدموع، وفواجع الشدائد، وحنين الديار. فلا جمال المكان يغري الغريب عن بلدته الغارقة بالمستنقعات والمظالم ونَكَد العيش، ولا الوطن الغريب المستقر بحقوق الإنسان والقانون يجعل الغريب ينسى ظُلم الحاكم وقسوة المحكوم. قَدم في الوطن البديل، وقَدم أخرى في الوطن الأم. مفارقة غريبة تشبه انشطار خلية الجسم إلى خليتين دون إنتاج البروتين!
صارت الغربة والاغتراب خط أصيل في خطوط الأدب والمعرفة والحياة، خاصة في أوطان العرب الملوثة بالقهر والاستبداد والفقر، وثقافة متأصلة في العقول المهاجرة والمهجّرة بالاختيار أو الإجبار. هناك هجرة مظلوم إلى بلد "الكفر" حيث "يوجد فيه حاكم لا يظلم عنده أحد"! ولك أن تقرأ رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب» التي سردت مآل غريب باحث عن العدل صيّره زمنه المريض ضَحيّة. ولك أيضًا أن تعرف رواية ألبير كامو عن: «الغريب» الذي ضاق بكلام الآخرين، وزهَد بإلقاء نظرة أخيرة على وجه أمه الراحلة.
الاغتراب له أضلاع هندسية غير متساوية في الوجود والحياة؛ سفر طوعي للبحث عن الفرص، وتنفس الأوكسجين النقي، واكتشاف للنفس وسط الثقافات والتجارب. هناك سفر قسري للنجاة بالنفس من النحر أو الكواتم الصامتة، وهروب من الاستبداد والقمع والعدالة المفقودة في الأوطان. كلاهما أسفار متنافرة بالأمزجة والرغبات للنفس البشرية. وخليط من الرؤى المتنافرة. هناك من يستريح في غربته بضبط إيقاع العقل والنفس. يقول الشافعي "سافر ففي الأسفار خمس فوائد – تفرج هم ّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد".
وآخر يعكّر حياته قلق العودة واللاعودة، وعدم التكيّف مع النفس، حيث يكثر زفير الآهات، ويقلُ شهيق الصبر والأمل. ويعيش عذابات ذكريات البيت الأول، وحديقة الدار، وملاعب الطفولة، ونخلة الوالد. مثلما أثارت النخلة "عبد الرحمن الداخل" شجونه عندما رآها في رصافته شبيهة به؛ فكلاهما غريب عن وطنه: "فقلت: شبيهي في التغرب والنوى-وطول اكتئابي عن بنيّ وعن أهلي".
لا تاريخ للغريب بمنطق علم الاجتماع، ولا وجود لفراغ الزمن في الحياة بمنطق الفلسفة؛ متواليات أحزان لا تتوقف. فالغربة مصيّدة فيها الكثير من المفاجآت، ومتاهات للمجهول، لهذا انتشرت الفواجع النفسية، وتَرسّخ الاكتئاب في الخلايا، وصار دماً يسير في الشرايين، لأن الغربة جاءت من عماء التاريخ. و"الغريب إلى عماء الوجود" كما قال نجيب محفوظ.
تبقى الغربة متواليات للمعاني والتناقضات؛ الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة كما يقول الأمام على عليه السلام. وهي عند البعض في هذا الزمن العصيب ذُل ومهانه، وقطع لجذور الكرامة، وانفصام لشبكية العين. ولكن بمنطق العواطف والأحاسيس يبقى الوطن أكبر من الجميع، وأكبر من أن يحُملَ في حقيبة سفر.
لذا من النادر أن ترى عراقي عاش في ارض الحضارات والأنهر والنخيل، وتعطّر برائحة الأنبياء والأئمة الصالحين، وتلذذ بحلاوة التمر والبرتقال والرمان، وامتلئ عقله بخزين الأدب والمعرفة وجمال الفنون أن لايسمع من بلاد غربته صوت آهات الوطن وأنين الأهل، ودقات القلوب على جهاز التنفس الاصطناعي، ومعها صوت المقالع التي تقلع جذوره، وتدمّر ثقافته. بينما الشاعر أبو فراس الحمداني يتذكر الأهل والوطن لمجرد سماعه هديل حمامة صغيرة على شجرة قرب سجنه في بلاد الروم، فيتذكر: أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ -أيا جارتا لو تشعرينَ بحالي؟