: آخر تحديث

نقدُ النقدِ.. نقدُ أبي زيد أدونيسَ أنموذجًا

72
63
64
مواضيع ذات صلة

موقفنا من الحاضر يؤثر في رؤيتنا للماضي؛ فقد نكون راضين عن حاضرنا، وقد نكون ساخطين، وقد نرى أسباب السخط ماثلةً في عدم التمسُّك بالتراث كحال سدنة التراث المدافعين - بزعمهم - عنه.. كما قد تأتي أسباب ذلك السخط -في جهة مقابلة مضادة - في جعْلِ مكوِّنات التخلف قائمةً على شدّة التمسُّك والارتباط بذلك الماضي كحال المنفكِّين من التراث وعنه.. وهي قضايا كثيرة ومتشابكة، تدخل في باب النقد، أثارها مفكِّرون بارعون كثيرون في عصرنا الحالي، عبر مشروعات ودراسات مطوَّلة، منهم أدونيس في كتابته (رسالة دكتوراه) الثابت والمتحوّل؛ لكن مناقشتنا أفكار أدونيس، ومحاولة معرفة موقفه القبلي والبعدي مسائل تدخل في دائرة نقد النقد، وهو ما يدفعنا لتساؤلات تتمثل في:
ما موقف أدونيس القَبْلي من التراث؟
وما مدى تأثير تلك النظرة القبلية؟
وقبل ذلك: كيف جاءت تلك النظرة القبلية؟
ولماذا؟

هذه وغيرها نقاطٌ أثارها نصرُ حامد أبو زيد في كتابه "إشكاليات القراءة وآليات التأويل" فقد وَقَفَ مواقفَ بارعةً من دراسة أدونيس في الثبات والتحوُّل.. وهي محاورُ رئيسةٍ لنقدِ النقد، أو لنقد نقدِ النقد.. سأتناول فيها رؤية أبي زيد لمحاولة أدونيس الرائدة، ولأن مثل تلك الرؤى ونقدها قليلٌ أو نادرٌ في الساحة؛ فسأكتفي بمثل تلك الرؤية؛ إذ لا يمكنني مقارنة هذا العمل النقدي الذي بَرَعَ فيه أبو زيد بعمل آخرَ مماثل؛ لأنني - ببساطة شديدة -لا أعرف قبل هذا العمل الذي وجدتُه على سبيل الصدفة؛ فقد ألفيتُه -قبل سنين كثيرة- في سبيل بحثي عن مفردة أخرى في موضوع آخر..

لنقرِّر - بدءاً - أننا نبحث عن نظرة ديناميكية للتراث تحلُّ محلَّ هذه النظرة السكونية؛ فليس الإقصاء هدفاً، كما أنّ الانكفاء ليس مبتغانا..
في هذه المفردات الشائكة و تلك المناطق المتشابكة يقول أبو زيد:
".. غير أن هذه النظرة الديناميكية بوعيها الجديد وموقفها العملي مع عناصر الخير والتقدم والصواب ما زالت -على المستوى النظري -محجوبةً عن قانون الجدلية بين الحاضر والماضي، وما زالت تدور في إطار الوهم التقليدي الذي يفصل بين الموقف الراهن للمفكِّر وبين رؤيته لتراث أمتِه.. مازال مفكرو هذا الاتجاه الجديد يظنون أنهم يقدمون صورة موضوعية للتراث والماضي، وهم في هذا الوهم لا يحققون تميزهم الكامل عن الاتجاه التقليدي الذي يرفضونه في واقع الأمر.. إن مفكري هذا الاتجاه - بكلمات أخرى - يناقضون أنفسهم حين يسلمون بإمكانية " الدراسة الموضوعية" للماضي كما لو كان الماضي شيئاً محايداً مستقلاً عن وعينا الحاضر وموقفنا الراهن.. إن للماضي وجودَه المستقل دون شك ، بمعنى أن له وجوداً تأريخياً في الماضي (وجوداً بالمعنى الأنطولوجي)، أما بالمعنى المعرفي (الأبستمولوجي)؛ فالماضي مستمرٌ يشكِّل الحاضرَ ، كما يعيد وعيُنا الراهنُ إعادةَ تشكيلِه.. إن العلاقة بين الماضي والحاضر ــ بهذا الفهم ــ علاقةٌ جدلية، وكذلك العلاقة بين التراث والباحث.. لا يكفي أن يتبنّى الباحثُ في تراثه الاتجاهاتِ التقدميَّةَ الخيِّرة؛ بل عليه أن يعي - بالدرجة نفسها -  جدليةَ علاقتِه مع هذا التراث، وأن يتخلَّص من وهْمِ النظرة الموضوعية.. إن أهمية هذا الوعي تضع أساساً "موضوعياً " لموقف الباحث من التراث؛ إنها تؤصِّل اختيارَه بدلاً من أن تجعله في منطقة "الأهواء" و "النوازع" و "الأغراض الشخصية".. وهي الاتهامات التي يوجِّهها عادة من يعتبرون أنفسهم سدنة للتراث، وأصحاب الحق الوحيد في فهمه وتفسيره.. إن هذا الوعي - من جانب آخر - يكون قادراً على كشف الأساس النظري لموقف "الآخرين" من التراث؛ إنه يفسِّر "فهمهم الخاص" أو "تأويلهم" الذي يعتبرونه "الفهم" الوحيد و "التفسير" الصحيح.. إن رفض وهم "الفهم الموضوعي" هو نقطة الانطلاق الأولى للتحكم في الأهواء والنوازع والأغراض، ومواجهتها بدلاً من تركها تعمل في الخفاء.. وهذا الوعي يمكِّن الباحثَ من السيطرة على موقفه وفهمه وتقنينه، مما يعطي رؤيته بُعْدَاً أعمق، ويجنبه مزالق الشطح والوثب والربط الميكانيكي بين الظواهر.. "

ونحن نستطيع أنَّ نزعم - مطمئنين - أنَّ أبا زيد يشمل أدونيسَ في تلك العثرة الفكرية أو المنهجية؛ فقد انطلق أدونيس من زعم  التجرد من الأهواء، كما يمكن أن نسحب نظرة أبي زيد لأدونيس لهذه الدائرة الشكيِّة؛ فنزعم أن هذه الوقفات مع أدونيس ومع أبي زيد - جزئياً - قابلةٌ هي الأخرى لتلك الدائرة ذاتها كذلك؛ فقد أكون ذا نظرةٍ أو نظراتٍ متغيِّرةٍ سابقةٍ لوَّنت رؤيتي وصبغت حكمي على تلك المفردات..
وهذه الشكوك المركَّبة ظاهرةٌ صحية ملزِمة؛ بل هي مدارُ تقدُّمٍ فردي وجماعي رئيس، وإن كنّا - بحكم ثقافتنا الدارجة المادية الاستهلاكية - سادرين عن هذه المكوِّنات!

الشكُّ والقلق طريقُ المعرفة، واليقين  والاطمئنان نقيض ذلك وعكسه!
الشكّ يؤدي إلى التساؤل والبحث والتقدم، واليقين يدعو لتقديس ما أُنتِج وانتهى، ويكرّس الاجترار... والأفراد والأمم لا يتقدَّمون إلا من خلال إضافات دائمة مستمرة، تشغب على الدارج، وتستفز الموروث والساكن، وتسعى لتلبية حاجات العصر الراهن... 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي