لم يكن مضمون الخبر الذي وزعته وكالة "فرانس برس" صحيحاً، وذلك بصرف النظر عن مستوى المصادر التي استخدمت منصة الوكالة للترويج لتحول في الوجود الإيراني على الأراضي السورية. ما حصل بحسب مصادرنا أن "فيلق القدس" أجرى تعيينات جديدة، وغيّر ما يسمى "المودوس أوبراندي" أي أسلوب العمل على الأراضي السورية.
فقد كانت الضربات الإسرائيلية عنيفة جداً، ومؤذية إلى أبعد الحدود، حتى قبل تصفية الجنرال محمد رضا زاهدي ومعه ستة ضباط في القنصلية الإيرانية. ولعل مجزرة القنصلية في الأول من نيسان (أبريل) الماضي شكلت النقطة التي أفاضت الكأس بعد سلسلة اغتيالات وضربات جراحية على كامل الخريطة السورية، بما أوضح انكشاف قيادة "فيلق القدس" المنبثق من "الحرس الثوري" الإيراني. ورغم محاولة المصادر التي سربت الخبر إلى الوكالة الفرنسية الإيحاء بأن ثمة تغييراً عميقاً وربما استراتيجياً في الدور الإيراني في سوريا، فإن جل ما حصل أن الإيرانيين أجروا تغييرات تكتيكية تتصل بمقار إقامة ضباط "فيلق القدس"، وسرية حركتهم، وطبيعة علاقتهم وأسلوبها بالأجهزة التابعة للنظام السوري التي تتهمها أوساط إيرانية بتسريب معلومات خطيرة عن الوجود الإيراني على الأرض إلى أجهزة غربية تنقلها بدورها إلى "الموساد" الإسرائيلي.
كما تتصل التغييرات التكتيكية بخفض كثافة حضور الضباط والخبراء دفعة واحدة على الأراضي السورية. وهذا ينطبق أيضاً على الأراضي اللبنانية بسبب احتمال احتدام المواجهة في لبنان واستهداف قيادات عسكرية رفيعة من "حزب الله" خارج نطاق الجنوب والبقاع، فضلاً عن أن قواعد الاشتباك المستجدة بعد أزمة ضربة القنصلية، يمكن أن نؤكد أنها تلحظ عدم استهداف المقار السيادية الإيرانية أسوة بالقنصلية، لكنها لا تشمل استهداف ضباط إيرانيين خارج السفارة الإيرانية.
أما اشتعال الجبهة اللبنانية المرتقب على خلفية اقتراب المرحلة الأخيرة من العملية العسكرية الإسرائيلية في مدينة رفح، فسيدفع الإيرانيين حتماً إلى التصعيد، ليس لإنقاذ رفح، بل لتدعيم سرديتهم حول دعمهم قطاع غزة وحركة "حماس". وهنا سيكون للبنان حصة وافرة من العمل العسكري والهجمات الإسرائيلية ضد "حزب الله" وحركة "حماس" وحركة "الجهاد الإسلامي"، وأخيراً وليس آخراً ضباط "فيلق القدس" ومنتسبيه الذين يتحركون على الأراضي اللبنانية.
كما أن الساحة السورية لا يمكن إلا أن تعود جبهة مواجهة ساخنة، لأن لا إيران ستخفف من دور ضباطها و"مستشاريها" وانتشار ميليشياتها في سوريا، ولا إسرائيل ستدع إيران تتحرك بحرية في سوريا المعتبرة ساحة لتصفية الحسابات بين مختلف القوى التي تحتل أراضيها وسماءها في آن معاً.
واهم جداً من يعتقد أن إيران ستخفف من وجودها العسكري في سوريا. فسوريا هي الاستثمار الجيوسياسي الأكبر في تاريخ إيران الخمينية. وهي حجر الرحى في الاستراتيجية الإيرانية المشرقية، وحلقة الوصل بين حدود مداها الحيوي عند القائم – البوكمال، وحدودها الغربية عند الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والخط الأزرق ومزارع شبعا الفاصلة بين لبنان وإسرائيل.
صحيح أن معظم المراقبين يعتبرون "حزب الله" الاستثمار الأهم ودرة تاج السياسة التوسعية الإيرانية في المشرق العربي، لكن العارفين يدركون أن سوريا هي العمود الفقري لهذه السياسة، فإن خرجوا منها انهار المشروع التوسعي الإيراني برمّته.