محمد ناصر العطوان
أفكر فيهم كثيراً... في كل الذين رحلوا من حياتي دون أن يلتفتوا ليوم أخير، دون أن تُغلق أبواب رحيلهم بلُطف. في جدي الأول الذي بقي وعده بالحلوى معلقاً في الهواء، وجدي الثاني الذي تحولت زيارته «القريبة جداً» إلى أبد من الانتظار... في أمي التي خرجت كما لو أنها ستعود بعد قليل، فتركت كل شيء على حاله، حتى رائحة عطرها في الغرفة... في خالي الذي صار أشبه بكتاب نُزعت منه الصفحات الأخيرة من كل قصة.
أفكر في وجوه التقطتها اللحظة ثم طواها النسيان، جيران طفولتي الذين ذابوا مع جدران البيت القديم، وأصدقاء تحوّلوا إلى ظلال صامتة، وأناس مروا في الطريق كلمح البصر وتركوا أثراً لا يُمحى.
كأننا، مع كل فراق بلا كلمة أخيرة، نضيف غرفة جديدة إلى «متحف الفقد» الذي ينمو في صدرنا... متحف لا تُعلق على جدرانه صور، بل لحظات متجمدة... موعدٌ أُلغي، رسالة لم تُفتح، هاتف صامت، باب مفتوح على صمت.
أليس الحنين، في النهاية عزيزي القارئ، هو ذلك المتحف الواسع الذي نسكنه حين نكبر؟ متحف لكل الذين رحلوا دون أن يودعونا، فتركونا نبحث عن الوداع في كل زاوية من زوايا الذاكرة، وفي كل مقعد فارغ لايزال ينتظر.
في غرفتي، ما زالت هناك مقاعد فارغة، لم يسبق أن جلس عليها أحد، في الواقع هي ليست مقاعد مادية، ولكني أراها... أراها تنتظر أن يجلس عليها من رحلوا دون أن يودعوا.
جدي الأول رحل وأنا في الطريق أبحث عن ذاتي... قيل لي «سيأخذك لشراء الحلوى غداً». لكن الغد الذي جاء كان بلا حلوى، بلا يَد خشنة تمسك بيدي، بلا رائحة تبغ قديم تملأ السيارة.
جدي الآخر رحل وهو يعدني بزيارة «قريباً جداً»... ولم أكن أعلم أن «قريباً جداً» كانت بلداً بعيداً لا تصل إليه حافلات الدنيا، ولا تطير إليه طائرات الوعد، فقط ترك لي ساعته التي توقفت عند الساعة التي قرر فيها الرحيل دون استئذان.
أمي رحلت دون أن تغلق الباب... ظننت أنها ذهبت لرؤية الطبيب... انتظرتها وأعدت ترتيب الوسائد على أريكتها، وحضرت كأس الماء الذي كانت تشربه عند عودتها... لكنها لم تعد، فقط ظلت رائحة عطرها تعلق بالهواء كشاهدٍ على اختطاف أعز ما رأت عيني.
خالي، أيضاً رحل وهو يحمل حكايات لم يكملها... كل قصة كانت تنتهي بـ «في المرة القادمة». ولم تكن هناك مرة قادمة... صار خالي مجموعة من الجمل المنقوصة، وفصولاً مبتورة في كتاب لا غلاف له.
جيران الطفولة الذين رحلوا كأنما كانوا ظلاً لبنايتنا القديمة... عندما هُدمت البناية، انهار الظل معها... أسماؤهم الآن مجرد أصداء في بئر اللاوعي، أما وجوههم فأصبحت مثل صور في ألبوم مبلل تحت المطر.
أما الصداقات... تلك التي انتهت بهاتف لا يرد، ورسالة لم تُقرأ، وموعد أُلغي بلا سبب... رحلوا كسحابة مرت فوق رأسي ولم تمطر إيذانا بالرحيل... أحياناً أتساءل، هل كنت أنا من رحل عنهم، أم هم من رحلوا عني؟!
في الطريق، مررت بعابرين... بائع كتب قديمة أخبرني بقصة غيرت مساري، عبدالرحيم، الذي اختفى فجأة... وسيدة قابلتها في الشارع ومعي أبنائي، حيث كنا على وشك الدخول للمنزل عندما ظهرت وأعطتنا قطعة حلوى مع ابتسامة مجانية، فابتسمنا جميعاً؛ كيف لامرأة أن تحمل الحلوى وتوزعها في الشارع بهذه البساطة؟ أردت أن أشكرها لاحقاً، لكن خبراً انتشر في الحي سبقني... لقد قتلها زوجها المجنون في الشهر ذاته! كانت تحمل الحلوى، وكان يحمل الموت، وعن طفل سألني عن الوقت وبكيت لأنه ذكرني بطفلي الداخلي الذي رحل هو الآخر دون وداع.
كل هؤلاء... رحلوا كما تذهب أوراق الخريف... بصمت، بلا ضجيج، وكأنما كانت الأرض تفتح فمها تحت أقدامهم وتغلقُه بعد أن يمرّوا... أحياناً أفتح النافذة في الليل، وأتساءل... أين ذهبوا جميعاً؟ هل هناك مدينة للذين رحلوا دون وداع؟ هل يجتمعون في مقاهي «الرواء» هناك، يتحدثون عن أولئك الذين تركوهم وراءهم، ويقولون: «كنت سأودعه، ولكن...»؟ قرأت في إحدى كتب الصوفية أن «الوداع الحقيقي لا يحتاج إلى كلمات، إنه يحدث كل يوم»... ربما كان هذا الصوفي على حق، فهؤلاء الذين رحلوا دون وداع، هم في الحقيقة لم يغادروا تماماً.
هم هنا، في الساعة المتوقفة.
في الكرسي الفارغ.
في القصة غير المكتملة.
في رائحة العطر التي تظهر فجأة ثم تختفي.
هم في كل «قريباً» أقولها وأنا أعرف أنها قد لا تأتي... وفي كل الذين انتظرتهم ولم يأتوا... وفي كل الذين عرفتهم ولم يعودوا... الذين رحلوا دون وداع تركوا لنا أكثر من ذكريات... تركوا لنا أبواباً مفتوحة... إنني أدعو جميع القراء إلى الاعتناء بمتحف فقدهم بالدعاء والامتنان لكل لحظة قبل الوداع...
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لم يرد به وجه الله... يضمحل.

