هل هناك أكبر من فضيحة العلاقة بين المفكر اليساري نعوم تشومسكي وتاجر الجنس الأميركي جيفري إبستين؟ إن الأكاديمي العملاق، الذي طالما عرف بانتقاداته الحادة لهيمنة السلطة، وصف الرجل الذي تورط في جرائم جنسية خطيرة بأنه «صديق عزيز، ومصدر دائم للتبادل الفكري»... وفي أكثر من موقع وصف العلاقة مع إبستين -الذي قيل إنه انتحر في سجنه عام (2019) بعد افتضاح استغلاله فتيات قاصرات في حفلات مجون لكبار الشخصيات- بأنها تحمل «قيمة فكرية»، وأنهما خاضا نقاشاً لتبادل الأفكار، وبحسب إحدى الرسائل التي تمّ الكشف عنها، يعبّر المفكر العالمي عن التقدير لإبستين بسبب «فضوله اللامحدود، ومعارفه الواسعة، وبصيرته العميقة»... وهذه كلها جعلته «صديقاً فكرياً مهماً»!
الصدمة ليست في انكشاف هذا الانهيار الأخلاقي لمثقف عالمي، هذا ليس جديداً، لا أحد يريد أن يتحول المثقفون إلى ملائكة، وهم لم يدّعوا ذلك! ولم يلبسوا ثوب القداسة لمجرد أنهم أنتجوا فكرة، أو كتبوا رواية، أو قالوا شعراً. لكن الصدمة في استسهال منح شهادات مزورة يسبغون فيها المناقب على مجرمين انحدروا لأسفل المعيار الأخلاقي.
لكن هناك مبالغة في ردود الفعل أمام كل منعطف ينكشف فيه الانحدار الأخلاقي لمثقف بارز. الحقيقة أننا نبالغ في تصوراتنا تجاه الفلاسفة، والمفكرين، والمثقفين، نعتقد أن لديهم رقيّاً أخلاقياً إلزامياً، وأن «المعرفة تصنع الفضيلة»، وأن إنتاج الأفكار العظيمة، والأدب الرفيع يهذب النفس تلقائياً... وهذا التصور ليس جديداً، عبر التاريخ، منذ سقراط، وأفلاطون، كانت هناك محاولة لربط الفلسفة بالأخلاق. وترسخت التصورات بأن أي شخص وصل إلى مستويات عالية من المعرفة، والفهم سيكون بالضرورة ميّالاً للإنسانية، والعدالة، والخير، ونبذ الشر. وأن أهل الفكر والثقافة سيكونون غالباً مهمومين بقضايا الإصلاح الاجتماعي، والانحياز للقضايا العادلة...
الحقيقة أن هذه تصورات رومانسية، فالمعرفة قوة محايدة، وتوجيهها مسألة أخلاقية. والعبقرية الفكرية لا تضمن الرحمة، أو النزاهة، والإبداع لا يمنع الإساءة، وسوء التصرف، والوقوع في الموبقات.
فكرة «موت المؤلف» ستريحنا حتماً، بمعنى: الفصل بين النصّ وصاحبه. حين تقرأ عملاً عليك أن تحاول فصله عن كاتبه، وسيرة المؤلف، وسلوكه، ومشاعره. فالنصّ يصبح مستقلاً، ويملك حياته الخاصة. وعلى القارئ أن يصنع المعنى. كل نصّ ارتبط بمؤلفه أصبح مقيداً. وتحرير النصّ يبدأ من فكّ وثاقه مع المؤلف الذي أنتجه.
نعلم أن هذا صعب، خاصة أن كثيراً من الفلاسفة، والمفكرين، وأهل الثقافة، والأدب عاشوا حياة متناقضة مع مبادئهم، جان جاك روسو (مثلاً) كان من أهم فلاسفة عصر التنوير، وكتب عن التربية، والحرية، والمساواة، ومع ذلك، فقد تخلى عن أطفاله الخمسة واحداً تلو الآخر، وأودعهم في ملجأ للأيتام. وكان «روسو» يتحدث عن حبه العميق الذي لا مثيل له للإنسانية، وأنه صديق للبشر جميعاً، لكنه كان ميالاً للشجار، والخصام، حتى أن أحد زملائه كتب: «كيف نصدق أن صديق البشرية لم يعُد صديقاً لأحد؟».
مثالٌ آخر، الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر كان ماركسياً ملتزماً، لكنه ليس فقط برّر القمع السوفياتي (في مراحله الأولى) بحجة الدفاع عن الثورة، بل كان يرى في ستالين «ضرورة تاريخية»، واختار الصمت بشأن الفظاعات السوفياتية، خاصة في معسكرات العمل، لأنه لم يُرِد أن يقدّم بموقفه الناقد «هدية مجانية للغرب الرأسمالي»!
مثله مارتن هايدغر، أحد أعظم الفلاسفة في القرن العشرين، كان عضواً في الحزب النازي في ألمانيا. الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون، رائد الثورة العلمية، وصاحب مقولة: «المعرفة هي القوة»، والذي كتب نصوصاً لا حصر لها في الفضيلة، والنزاهة، تمت إدانته بتلقّي رشاوى خلال عمله في القضاء.
وهل ننسى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي تمّ الكشف عن فظاعات جنسية كان يقوم بها، حيث اتهم باغتصاب وممارسة الجنس مع أطفال فوق جثث الموتى في المقابر أثناء إقامته في سيدي بوسعيد بتونس، أواخر الستينات، وهو الذي كانت أفكاره تلهم عشرات الشباب اليساريين الذين وجدوا فيه صورة المثقف الملتزم بقضايا العمال، والعدالة، والحرية. نتذكر كذلك بابلو نيرودا، شاعر تشيلي الحائز على جائزة نوبل، وأحد أكبر شعراء اللغة الإسبانية، والذي اعتبر رمزاً للنضال اليساري، والإنساني، وصاحب «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة»، فقد اعترف في مذكراته التي نُشرت بعد وفاته باغتصابه خادمة في سيلان (سريلانكا حالياً) عندما كان دبلوماسياً شاباً.
فإذا لم نفصل بين المفكر والمثقف وبين إبداعهما، فسنقع في الحيرة حين تتضح لنا هذه التناقضات. أما إذا افترضنا أننا نبني علاقة نفعية مع المبدع تقوم على الاستفادة من المنتج الثقافي، والاستمتاع به، وليس الارتباط العاطفي بالمُنتج، والصانع، فسيحررنا هذا من القلق، فمن المهم قراءة إنتاج هايدغر، أو شعر نيرودا مع فهم التناقضات الأخلاقية في حياتهما، وهذا يمنحنا صورة أكثر اكتمالاً عن تعقيد النفس البشرية، ونفهم كيف يمكن للعبقرية، والتعاسة الأخلاقية أن تتمثلا في شخص واحد.

