: آخر تحديث

في مكة وأروقتها...!

2
1
1

محمد ناصر العطوان

في أروقة مكة، حيث تذوب النفوس في بحر من الأضواء والأرواح، وتختلط أنفاس الطائفين بنداءات الملأ الأعلى، كتبت هذه الكلمات... كتبتها وأنا أرى العالم بعينٍ جديدة، عينٍ فُتحت على أسرارٍ كانت خافية، وعلى حقائق كانت غائبة.

ثم أدركت في شوارع مكة وأروقتها ما أدركت، ما زاد فيني وما نقص مني.

في هذه البقعة المقدسة، حيث يلتقي الأرضي بالسماوي، الجنسيات بالعباد... تهاوت كل مقاييسي القديمة. اكتشفت أن المسافات بين العبد وربّه ليست مسافات مكان، بل مسافات وعي، وأن القرب ليس بالمراحل ولا الأميال، بل بالقلوب التي تذوب طلباً للقربى... وأن كل موصول غير متصل بالله لا يعول عليه... وكل ما دون العائلة... لا يقدم عليها.

شاهدت العائلات تتدافع في طوافها، الأيدي الممتدة على الأكتاف تمسك بعضها بعضاً خوف الضياع، فتذكرت الضياع وتذكرت أن أعظم روابطنا الأرضية هي مجرد ظل لرباطنا الأسمى به سبحانه، وأن كل صلة لا تنتهي إليه، فهي وهم زائل، وكل جماعة لا تُذكّرك به، فهي غربة ووحدة... لكنه سبحانه، في حكمته، جعل لنا في هذه الدنيا عائلاتٍ تذكرنا بعائلتنا الكبرى، عيال الله. فالعائلة هنا ليست دماءً وأجساداً فقط، بل هي ملاذنا الأرضي، ومدرسة روحتنا الأولى.

وأن السعادة ليست في الأماكن... بل في وعي صاحبها.

كم من قلب دخل مكة وهو حجر، وخرج وهو حجر! وكم من روح طافت بالبيت عشرات المرات ولم تطف بقلبها مرة واحدة! رأيت البسمة على وجه ذلك الكفيف الذي رافقته، بينما وجوه المبصرين مغطاة بأقنعة الهموم... فهمت أن النور لا يأتي من الخارج، بل ينبعث من داخل القلوب المؤمنة الموحدة. المكان لا يمنح السعادة، إنه فقط يهيئ لها الجو. أما صانعها الحقيقي، فهو وعي الإنسان وإيمانه.

وأن الناس عيال الله... وأحب الناس إلى الله أنفعهم لعياله.

هنا، في فضاء الحرم، حيث تختفي الفوارق، ويصير الغني والفقير، والقوي والضعيف، والسياسي والبسيط، كلهم عيال في مأدبة واحدة... الجميع يرتدي لباس الإحرام، الجميع يلهج بالتلبية نفسها. لم أعد أرى سوى النفوس مجردة من كل أطرها المادية... هذه هي المساواة الحقيقية. فأحب هؤلاء العيال إلى ربهم، هو من يمد يده ليساعد، ويلفظ أنفاسه ليخدم، ويبذل وقته ليرشد ويُسهّل وييسر.

وإنّك ميّت وإنّهم ميتون، والموت ميلاد جديد... وعتبة.

وسط هذه الجموع الحاشدة، التي لا تُحصى، كنت أفكر: كل هؤلاء سيمضي كلٌ منهم أجله. هذا المشهد المهيب هو صورة مصغرة للقاء الأكبر. الموت هنا ليس نهاية، بل هو عتبة نعبر منها من دار الغربة إلى دار القرار، من دار العمل إلى دار الجزاء.. هذه اليقينة وحدها هي التي تُعطي للحياة معناها، وتُخفف من وهنها.

وأدركت معنى العزة لله وليست لأحد سواه.

في مكة، تسقط كل العروش الأرضية... لا توجد بطاقة تعريف، لا منصب، لا مال، لا جاه. العزة الحقيقية هي أن تكون عبداً له، مطيعاً لأمره، قريباً من رحمته. كل عزة سواه هي ذل وزيف.

وأدركت صمت النبي... ومسارات عواقب الكفر والإيمان والنفاق..

كان صمته -صلى الله عليه وآله وسلم- في مكة درساً. صمت الحكمة، صمت القوة، صمت الذي يعلم أن العاقبة للمتقين... هنا، حيث بدأ الدعوة، كنت أتخيل مسارات تلك القلوب، قلب يؤمن فينير، وقلب يكفر فيظلم، وقلب ينافق فيهوي. كل مصير يختاره صاحبه.

ومعنى البركة وسرها... ومعنى الباسط لعباده، وأن هناك دائماً ما يكفي الجميع.

في زحام الحرم، والجميع يطلب الرزق والفضل، لم أرَ يوماً أحداً غادر وهو جائع. البركة لا تعني كثرة العدد، بل يعني أن تشبع القلوب والأبدان من حيث لا تحتسب. هو الباسط يده بالسعة، والخير كله في يديه، ولا ينفد خزانه.

وأخيراً، تلك الدعوة التي غيرتني: «أن يرزقني نوراً أهتدي به». فأراني كيف يكون النور الحقيقي. لم يكن نور عينين، بل نور قلب... ذلك الفتى الكفيف، كان أكثر الناس بصيرة. هو من قادني إلى الصلاة، هو من كان دليلي في الزحام، هو من كان يتحسس الطريق بقدميه وعصاه، وأنا أتبعه كالطفل. كنت أحمل عينين تبصران الشمس والحجارة، لكنه كان يحمل قلباً يبصر الله.

كان هو المبصر، وأنا الكفيف.

فرحمتك يا رب، يا من تمنح النور لمن تشاء، في أي صورة تشاء، وتجعل من الضعف قوة، ومن الظلمة نوراً، ومن الصمت حكمة، ومن الموت حياة... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد