إنّ التزامَ الصّمت، وليس «السّكوت»، هو ثقافةُ المعتصمين بالحقيقة. وقد يكون أشدَّ بلاغةً من القول حين يُدرك صاحبُه أنّ للحقيقةِ دومًا وجوهًا متعدّدة، لا يكشفها سوى الزّمنُ حين يتجاوز تفكّكَ منظومةِ القيمِ الإيجابيّةِ في المجتمع، ويرتقي بإزاحةِ مكبّاتِ التّفاهةِ والرّثاثةِ التي تسلّلت في غفلةٍ من «الزّمن الجميل».
كتبتُ قبل بضعة ايام عن لحظةٍ عابرةٍ من زمنٍ عراقيٍّ عبّر عن توقٍ أو بشارةٍ بعالمٍ لا مكانَ فيه لإلغاءِ إرادةِ النّاسِ أو إقصائِهم أو التّلاعبِ بمقدّراتِهم. واستعدتُ وأنا أعيش هذا الزّمنَ الأغبرَ الذي يتصدّره أشباهُ الرّجال، ملامحَ أيقوناتِ العراقِ في زمنِ النّهوضِ والانبعاثِ والبشارة. كانت الاستعادةُ بالنسبةِ إليّ إضاءةً في تاريخٍ ممتدٍّ، لا بحثًا في التّاريخ، إذ إنّ البحثَ يُغرق في التّفاصيل ويتعثّر في فرزِ الحقائقِ والوقائع بين ما كان تعبيرًا عن مآثرَ، وما كان مجرد أعاد تدويرَ ما تبقّى من إرثٍ متدنٍّ راكمتْه أسبابُ التخلّفِ والجهلِ وانعدامِ الحريّاتِ والانغلاق.
الاستعادةُ، حين تسترجعُ سيرَ الناسِ وأيقوناتِ زمنٍ موصوفٍ بما يسودُه من قيمٍ إنسانيّةٍ إيجابيّةٍ، وعاداتٍ وتقاليدَ وتداعياتٍ لظرفٍ ملموسٍ بما فيه من صراعاتٍ بين القديمِ البالي والجديدِ الذي لم يتبلورْ بعد، لا تُجافي الحقيقة، لكنّها تُظهر المشهدَ وكأنّه خالٍ من الاستباحة أو من الممارساتِ التي لم تكن من وعاءِ ذلك «الزمنِ الجميل» الموصوف.
ويتوهمُ البعضُ، حين نتغنّى بماضٍ أشاع الأملَ والتفاؤلَ، كأنّنا نحاكي «زمنًا شيوعيًّا»! وليتنا كنّا نعني ذلك وكان واقعًا شهده العراق. إنّ «الزمنَ الجميل» الذي أعقب ثورةَ الرابعَ عشرَ من تموز عام 1958 لم يكن شيوعيًّا بأيّ معيارٍ. فلم يكن الحزبُ الشيوعيّ العراقيُّ مُمثَّلًا في حكومةِ الثورة، خلافًا لكلّ أطرافِ «جبهةِ الاتحادِ الوطنيّ» التي تشكّلت عام 1956 ومهّدت سياسيًّا لقيامِ الثورة: الحزبِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ بزعامةِ كامل الجادرجي، وحزبِ البعثِ بزعامةِ فؤاد الركابي، وحزبِ الاستقلال، والحزبِ الشيوعيِّ العراقيِّ الذي ارتبط من خلاله الحزبُ الديمقراطيُّ الكردستانيّ.
يومذاك لم تكن عضويّةُ الحزب، عشيةَ الثورة، تتجاوز تسعمئةَ كادرٍ، لكنّ نفوذه الشعبيَّ في المجتمعِ ودوره في الحياةِ السياسية كانا واسعين يتجاوزان اي تنظيم ، وقد عبّر عن ذلك بوضوح خروجُ مئاتِ الآلافِ من المواطنين على اختلاف مشاربتهم وانتماءاتهم في مظاهراتٍ عمّت بغدادَ وسائرَ المدنِ العراقيّةِ، رافعةً شعاراتِ الحزبِ دفاعًا عن الثورةِ وصونًا للجمهوريّةِ العراقيّةِ الوليدة.
كانت تلك الحركةُ الجماهيريّةُ، التي شملت كلَّ القوى الفاعلةِ في المجتمع من تياراتٍ سياسيّةٍ وطبقاتٍ وفئاتٍ مختلفة، باستثناءِ قاعدةِ النظامِ الملكيِّ المعزولة، قد شكّلت سدًّا منيعًا لحمايةِ الجمهوريّةِ وردعًا لأيِّ هجومٍ عسكريٍّ عليها.
ولم يرَ حلفُ بغداد، الذي «أُهين» في عقرِ داره يومذاك، في ذلك النهوضِ الشعبيّ سوى تعبيرٍ عمّا أسماه بـ «الخطرَ الشيوعيَّ الداهم»، فبات التحوّلُ السياسيُّ الديمقراطيُّ، في ظلّ حكومةِ «جبهةِ الاتحادِ الوطنيّ» (بغيابِ الحزبِ الشيوعيّ)، وما شُرِّع فيها من قوانينَ وسياساتٍ، يُعرَّف في الأوساطِ المعادية بـ«المدّ الشيوعيّ».
كان الحزبُ، من موقعِه في الشارعِ لا في السلطة، يدافع عن الثورةِ والجمهوريّةِ بمواقفِه السياسيّةِ وتعبئتِه الجماهيريّةِ، عبر «لجانِ الدفاعِ عن الجمهوريّة» بلا سلاحٍ. ولم تُشكَّل «المقاومةُ الشعبيّة» إلّا لاحقًا، بقرارٍ من حكومةِ جبهةِ الاتحادِ الوطنيّ، دون أن يكون للحزبِ الشيوعيِّ تمثيلٌ فيها. ومع ذلك، انضمّ الآلافُ من الشيوعيّين ومناصريهم إلى المقاومةِ ضدَّ فلولِ النظامِ الملكيّ من الكومبرادور والإقطاع ومَن تضرّر من قيامِ الجمهوريّةِ وانتصارِها.
ومَن اراد أن يعرفَ حقيقةَ المزاعمِ والاتهاماتِ التي سيقت ضدَّ «المقاومةِ الشعبيّة» – بما فيها ما أشار إليه أحدُ الذين قرأوا مقالَ «ناسٍ من الزمنِ الجميل» وفضحه أسلوبُه الشتائميُّ المستوحى من ثقافةِ الميليشياتِ الولائيّةِ وخزائنِ «دويلةِ الخرابة» وشبكاتِها المأجورة – فعليه أن يعودَ إلى ما كتبه الأستاذُ حسنُ العلوي، الصحفيُّ والكاتبُ البعثيُّ البارز، الذي لم يتنكّرْ لتاريخِه الحزبيّ. فقد تناول بنفسِه تلك الاتهاماتِ، سواء ما قيل عن المقاومةِ أو عن حادثةِ تمزيقِ القرآنِ أو نشرِ صورةِ فتاةٍ ترتدي زيَّ المقاومةِ الشعبيّةِ تمارس الرذيلةَ تحت جسرِ الجمهوريّة ببغداد، وهي كلُّها من فبركاتِ البعثِ يومذاك لتشويهِ سمعةِ الشيوعيّين والتعبئةِ ضدّهم.
ورغم مخاطرِ التدخلِ الإنكليزي–الأميركي المحتملة، استناداً إلى طلبٍ من أيِّ مسؤولٍ رفيع كـ«الملك» أو «الوصي» أو «نوري السعيد» لإضفاء الشرعية على التدخل العسكري والإطاحة بالجمهورية، فإن اغتيال الملك وأسرته كان مصاباً لا يقبل التبرير، وكذلك ما جرى من تمثيلٍ بالوصي ونوري السعيد. ولا شكّ أن تلك الفعلة لم تكن بدعوةٍ من الحزب، ولا المنفذُ من بين صفوفه. ولم يعد سراً من أطلق الرصاص على العائلة الملكية، ولا الظروف التي أحاطت بذلك الحدث غير المبرر، وقد وثق الدكتور حميد عبد الله تفاصيل الواقعة في قناته التوثيقية المعروفة.
إن انفلات المشاعر الشعبية الساخطة على ارتكابات النظام الملكي، وهو ما يتناساه اليوم من يحنّون إلى عهده – ولهم حقهم في الرأي والمناقشة – ويتناسى المجازر التي ارتكبها في السجون والمعتقلات هو الذي كان وراء ذلك الانفلات وما اتخذ من طابعٍ انتقاميٍّ غير مبرر. ولم يكن بوسع الحزب، الذي لم يتجاوز عدد كوادره تسعمئة عضوٍ بينهم من غيّبتهم سجون العهد المباد، أن يضبط تلك الموجة العارمة من الغضب.
كانت المظاهرات تخرج من كل مكان، من بغداد ومن المدن البعيدة، يشارك فيها العمال والفلاحون والطلبة والكسبة والمثقفون، رجالاً ونساءً، يهتفون للثورة وينددون بالاستعمار والإقطاع والرجعية، كيفما اتفق، ودون انتظار أي توجيهٍ حزبي. وفي أكثر انعكاسٍ لحذر الحزب من تحميله مسؤولية سلوكياتٍ لا يقرّها، قررت قيادة الحزب في مرحلة «المدّ الأحمر» إيقاف الترشيح لعضوية الحزب، بسبب الاقبال غير المسبوق للانضمام الى صفوفه ، وهو قرار استثنائي لا ينسجم مع تقاليد الأحزاب الشيوعية.
لقد عشتُ مع عددٍ من الزملاء الطلبة، قبل أن يقرّر الحاكم العسكري العام إبعادي من مدينتي الحبانية، محنةَ تطويقِ مدرستنا من قبل مظاهرةٍ تدعونا للانضمام إليها، كما فعلوا مع ثانوية البنات المجاورة. كنا حائرين مما يجري، وكان بيننا مسؤول المنظمة الشيوعية، عضو اللجنة القيادية في المدينة، الذي أكد أن لا توجيهاً حزبياً بتنظيم أي تظاهرة. وما يجري – قال – هو فعل مشاغبين يريدون إثارة الفوضى وتعطيل الدوام. ولم ننجُمن. لك الحصار ، إلا بعد تدخل المنظمة الحزبية التي بادرت إلى تفريق المتظاهرين والتحذير من إثارة الفوضى.
قلتُ في مقال «ناس من الزمن الجميل» إنّ ذلك الماضي لم يكن بريئاً من الأخطاء ولا منزهاً من الخطايا؛ بل كان خزينةَ أخطاءٍ وانكساراتٍ وهزائم، بعضها ظلّ يلاحقنا حتى بتنا اليوم نطارد الأمل بحثاً عن بابٍ للفرج. وقد كانت للحزب الشيوعي أخطاءٌ غير قابلةٍ للإنكار.
فقد كان علينا أن نتوقف عند مفاهيم الثورة والوطنية والتحالفات، وأن نعيد تركيبها ونحن نقرأ التجربة التاريخية للحزب والحركة الوطنية، ونعمّق معرفتنا بطبيعة مجتمعنا وما يدور فيه من تغيّراتٍ وتفاعلاتٍ ومظاهر غابت عن وعينا، إمّا بسبب الغفلة أو ضعف الاهتمام بسبر أعماقها.
اننا أخطأنا حين لم نغيّر سياستنا في التعامل مع ارتداد الثورة عن نهجها الديمقراطي، دون أن نتخلى عن حماية منجزاتها ودعم ما يعزّزها ويرتقي بها.
أخطأنا لتخلّفنا عن إعادة النظر في مفهومنا للوطنية، وضرورة تلازمها مع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
أخطأنا حين لم نطهّر صفوفنا من " الحواشي الرخوة " التي وضعت نفسها في موقعٍ مغاير لما ينبغي أن يكون عليه الشيوعي.
أخطأنا ونحن نكرر نهجاً فشل بالتجربة مع الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، حين مرّرنا شعار: «عاش زعيمي عبد الكريم، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم»، ثم انقلبنا عليه بانبطاحٍ مذلٍّ واستسلامٍ دون ردعٍ سياسيٍّ مناسب.
أخطأنا حين سمحنا بارتكاب خطيئةٍ بحق الحزب، ونحن نعيد تكريس عناصر قيادية لتتولى إعادة تنظيمه بعد جريمة الثامن من شباط الأسود، رغم مسؤوليتها المباشرة عن الترهل والتراخي قبل الانهيار، وما تبعها من تصفيةٍ واسعةٍ طالت خيرة قادته ومناضليه.
وأخطأنا حين اعتمدنا خط آب الاستسلامي، ودعونا إلى مجاراة «الاتحاد الاشتراكي الناصري» بعد الإطاحة بزمرة البعث في 18 تشرين الأول 1963، وما تمخّض عن ذلك من تداعياتٍ وتصدّعاتٍ وانشقاقاتٍ مؤلمة.
وأخطأنا أيضاً حين تحالفنا مع البعث دون وعيٍ بحجم الحذر واليقظة اللذين تفرضهما تجاربنا منذ زمن ثورة تموز.
ونخطئ اليوم ونحن نتغافل عن دروس تجربتنا التاريخية.
نعم، في تاريخنا أخطاء، لكننا نحن الشيوعيين وأنصار الحزب وجماهيره دفعنا الثمن غالياً. آلافُ المناضلاتِ والمناضلين شكّلوا جمهورًا أكبر من كلِّ أحزاب الخيبة والوجع الوطني، ممن يحاول بعضهم اليوم تعييرنا أو التذاكي المعيب علينا.
نعم، أخطأنا، لكننا ما زلنا هنا بين الناس؛ لم نسرق، ولم نرتكب المعاصي الكبرى: لم نرتزق، ولم نأخذ الرشى، ولم نشتَرِ الذممَ، ولم نبعِ الوطنَ للغيرِ أو نولِّ له الولاءَ. رصيدُ رفاقنا في كلِّ موقعٍ تولّوه، صغيرًا كان أم كبيرًا، نظيفٌ كالنهرِ، وسلوكهم على كلِّ صعيدٍ واحد: «العراق للعراقيين» لا للطائفية ولا للمذهبية ولا للتعصّبِ القوميِّ أو التطرفِ الديني.
وأخطأنا في مجرى نضالنا لإسقاطِ الدكتاتورية، لكننا لم نحتمِ بالأجنبي، ولم نركب على دباباتٍ أميركية ولا حتى عربية. جاهرنا برفضنا الحربَ والاحتلالَ، وقبلها الحصارَ، ولم نراهن على الحرب الإيرانية–العراقية لإسقاطِ النظامِ، بل رفعنا شعارًا واضحًا: «نحن نحارب لإسقاطِ الدكتاتورية بالاعتماد على قوى شعبنا الوطنية، ولن نحول البندقية من كتفٍ إلى كتفٍ، ولن نتسلّل من تحت أقدامِ القوات الإيرانية لضربِ الجنود العراقيين».
وبعد سقوط الطاغية ' لم يكن خيارنا سوى النضال بثباتٍ ضد فلولِ البعثِ والقاعدةِ وداعش. وانحاز الحزب إلى النضال السياسي من أجل إعادةِ بناءِ دولةٍ حرّةٍ مستقلةٍ ونظامٍ ديمقراطيٍّ لا طائفيٍّ، لا يقوم على المحاصصة، ولا يدين بالولاء للغير أو بالتبعية. لم نتبنَّ «التحرير» بدلًا من الاحتلال، ولم نشارك في أيِّ توصيفٍ طائفيٍّ في مجلسِ الحكم كما يزعمون، إذ إنّ الدعوةَ للمشاركة في المجلس كانت موجهةً إلى الحزب نفسه. وقد تمت دعوةُ الرفيقِ عزيزَ محمدَ بالخطأ لتمثيلِ الحزب، إلا أنّه أكد للجهةِ الداعية أنّه لم يعد عضوًا في قيادةِ الحزب، وأنّ الرفيقَ حميدَ مجيدَ موسى هو المسؤولُ الأولُ في الحزب.
لقد قيل الكثير عني شتْمًا وتعريضًا وتشويهًا، وتضمّنَتها كراريسُ ونشرياتُ أجهزةِ أمنٍ واستخباراتِ نظامِ البعث وذيولِه في الخارج، إضافةً إلى خونة الحزب والمرتدين عنه من القيادات والكوادر. لكنّ ما يهمّ، وما يُثار من قبل شبكاتِ مرتزقةِ الميليشياتِ الولائيةِ المنفلتةِ حول دوري السياسي منذ عام 2003، هو زعمُهم أنّي حقّقتُ امتيازاتٍ خلال عملي مع الرئيسِ الراحلِ جلالِ الطالباني، كممثلٍ شخصيٍّ له وكبيرِ مستشاريه. ومن المشكوكِ فيه أن يصدقَ أحدٌ أنّني اعتذرتُ عن قبولِ الراتبِ أو أيِّ مكافأةٍ مقابلَ ما كُلِّفتُ به، لكن بإمكان أيِّ مشككٍ أن يراجعَ حساباتِ رئاسةِ الجمهورية ليتأكدَ من مدى صدقي.
فقد اكتفيت، لأسبابٍ أمنيّة، بتخصيصِ منزلٍ احتمي فيه داخل مجمّعِ القادسيّة المخصّصِ لكبارِ المسؤولين في الرئاسة، وبعدَ عشرِ سنواتٍ فوجئتُ بطلبِ استيفاءِ الإيجاراتِ المتراكمةِ عن المنزل. وكان شمولُ المجمعِ بدفعِ بدلِ إيجارٍ قد تمَّ باقتراحٍ مني إلى الدكتور حيدرِ العبادي حين كان رئيسًا للحكومة. غير أن وزارةَ الماليةِ ومديريةَ العقاراتِ التابعةَ لرئيسِ الوزراءِ رفضت احتسابَ الإيجارِ أسوةً بالآخرين بنسبةِ 8% من أصلِ الراتبِ الذي لم أستلمه، وأصرت على أن أدفعَ البدلَ الكاملَ، أربعةَ ملايينِ دينارٍ شهريًا، لأنني لم أتقاضَ راتبًا من الدولة. وهكذا تنازلتُ عن راتبٍ ومكافآتٍ وامتيازاتٍ أخرى، في وقتٍ كان فيه النهبُ العامّ لأملاكِ الدولةِ يجري على نطاقٍ لم يسبق له مثيل، وتُستباحُ القصورُ الرئاسيةُ والعقاراتُ الباذخةُ، وتُوضَع تحت تصرّفِ قياداتِ وكوادرِ «الإطار» وميليشياتِه الخارجةِ عن القانون.
أما «الامتيازُ الآخر» من " الدويلة اللقيطة " فتمثّل في حصولي قانونيًا على موافقةِ وزيرِ الماليةِ على استئجارِ عقارٍ مملوكٍ للماليةِ كنت قد استأجرته سابقًا من مواطنٍ، واستخدمته مقرًّا لفضائيةِ «المدى». لكن رئيسَ الوزراءِ آنذاك، وولده أحمدُ القائمُ بشؤونِ إدارةِ الخكومة، أقسما على حرماني من أيِّ «غنيمةٍ» من غنائمِ دولتهم، بعد مقابلةٍ تلفزيونيةٍ أعلنتُ فيها معارضتي الصريحةَ لمظاهرِ الفسادِ التي كانت باديةً في نهجِ الحكومة. فقام رئيسُ الوزراءِ، بصفته الرسمية، برفعِ دعوىٍ قضائيةٍ يتهمني فيها بمخالفةِ عقدِ الإيجارِ مع وزارةِ المالية؛ في مشهدٍ لم يكن سوى انتقامٍ سياسيٍّ بلبوسٍ إداريٍّ، يكشف كيف تُستخدَم أجهزةُ الدولةِ لتصفيةِ الحساباتِ.
تلك هي «امتيازاتي» التي أثريتُ بها، كما يزعم بعضُ المأجورين من أبواقِ «الدويلةِ الولائيةِ المتفسخةِ» في ملاحظاتهم التي بثّوها عبر منصاتهم المأجورة. أما ما تخلّيتُ عنه من حقوقٍ على الحكومةِ، فهو كالآتي: ما يترتّبُ لي من تعويضٍ ماليٍّ عن عشرِ سنواتٍ من السجنِ والغربةِ والمنفى، إضافةً إلى قطعةِ أرضٍ وراتبٍ شهريٍ تُقدَّر بمئاتِ ملايينِ الدنانير، وخدمتي الصحفيةَ التي تجاوزت نصفَ قرنٍ دون انقطاع.
تلك هي امتيازاتي! لكنني مثل كلِّ الخيّرين من العراقيين الذين ظلّوا مستعدّين لكلِّ تضحيةٍ وإيثارٍ دفاعًا عن وطنهم ومستقبلِ شعبهم، لن أَمُنَّ على أحدٍ وأنا أسترجعُ ذكرى خمسِ محاولاتِ اغتيالٍ تعرّضتُ لها، كان آخرها في ٢٢ شباط ٢٠٢٢، وسأظلُّ عصيًّا على الرصاص، مثل كلِّ الذين كرّسوا حياتهم لهدفٍ يستحقُّ التضحيةَ ونكرانَ الذات. كان ممكنًا أن يكون امتيازًا وتعويضًا لي لو أنّ الحكومةَ اقتصّت من الجناة، لكنها للأسف سُجِّلته مثل كلُّ القضاياِ المشابهةِ الأخرى «ضدّ مجهول».!
لقد تجنّبتُ الرّدَّ أو التّوضيحَ على ما أُثير ضدّي من التباساتٍ واستهدافٍ منذ أوّلِ إطلالةٍ علنيّةٍ لي في الحياةِ السياسيّةِ والحزبيّةِ قبلَ أكثرِ من خمسةِ عقودٍ، بدءًا من سبعينيّاتِ القرنِ الماضي. ليس عجزًا، بل إيمانًا بفضيلةِ الإصغاءِ للآخرِ واحترامِ المختلف، وتمثُّلِ ما يُغني، حتى وإنْ انطوى على إساءةٍ شخصيّة. ولأنّ ما كُتب عنّي من تلفيقٍ وتشويهٍ بلغ حدَّ الابتذال، وجدتُ في التّعالي والإهمال خيرَ ردٍّ. فالصّمتُ — وليس السّكوتُ — حين يكون الحقُّ معك، هو أبلغُ ردٍّ وكبرياءٌ وإحساسٌ بالنزاهة. وقد قيل دائمًا إنّ النكرانَ حين يأتي من الأقربينَ أشدُّ من السّهامِ المسمومةِ التي يرميها أعتى الخصومِ والأعداء' وهو ما كان ايضاً ..!
إنّ فضيلةَ الإهمالِ في مواجهةِ التفاهةِ وقلّةِ الحياءِ والانحدارِ الأخلاقي، لا يتكفّل بها سوى الصّمت، في ظلِّ تغييبِ الدولةِ وهيمنةِ الميليشياتِ الولائيةِ بسلاحِها المنفلتِ، وأشباهِ الأوادمِ الذين لا يعرفون العيبَ ولا معنى النّزاهة. وهم يُمعنون في تسويقِ التجهيلِ والجريمةِ والنهبِ والفسادِ والقيمِ الرثّةِ، تنتظرهم شبكاتٍ إلكترونيّةٍ مأجورة تُخفي الأسماءَ والصّفات، إذ لا صفاتَ لهم سوى الارتزاق.
في مقالتي عن «ناسٍ من الزمنِ الجميل» حاولتُ أن أُضيءَ مرحلةً من تاريخِنا المنسيّ. وقد وجدتُ في ما أكتبه اليوم استكمالًا قد يُجيب على ملاحظاتِ البعضِ ممّن لا تُخفى هوياتُهم وطبيعةُ المهمّةِ الموكلةِ إليهم، والعديدِ من التعليقاتِ التي وردت في هامشِ المقالةِ المنشورة؛ وكانت مليئةً بالشتائمِ والتعريضاتِ المُبطّنةِ ضدي وضدّ الحزب، مكتوبةً بلغةٍ شتائميّةٍ تحاول أن تتزيّن بتهذيبٍ زائف.
لم تستطع الدكتاتوريات المتعاقبة ' رغم ما ارتكبته النيل من جسارة الشيوعيين وثباتهم في الدفاع عن مبادئهم وحياض وطنهم .
وهم يواصلون اليوم ما عاهدوا شعبهم عليه من ثبات وعزم ' محصنين من رثاثة ما هو قائم من منظومات الفساد والجريمة المنظمة والعسف المبطن.
وكما الحزب فإنني مفعمٌ بالامل مشبَع بالتفاؤل بان الزبد يذهب هباءاً ، وإما الزمن الجميل لابد ان يعود ويضئ الطريق!

