وصفُ القضيَّة الفلسطينيَّة بأنَّها «قضيَّة الفرص الضَّائعة» ليس جديدًا، فقد تردَّد هذا الوصف مرارًا على مدى عقود، ولم يخلُ ذكرُه في كلِّ مرَّة من أمرين: الأوَّل، تِعداد تلك الفرص وتواريخها (1937، 1947، 1965، 1967، 1978، 1981، 2000...). والثَّاني، تبادلُ اللَّوم والاتِّهامات بين الأطراف المختلفة حول أسباب ضياعها.. ويُقال: إنَّ أوَّل مَن استخدم الوصف هو الدبلوماسيُّ الإسرائيليُّ «أبا إيبان»، الذي صرَّح عام 1973 بأنَّ «الفلسطينيِّين لا يفوِّتُون فرصة لإضاعة كلِّ فرصة».
غير أنَّ الفرصة الرَّاهنة أمام الفلسطينيِّين تختلفُ جذريًّا عن كلِّ سابقاتها، فهي فرصة ملموسة، يمكن الوثوق بها؛ لأنَّها لم تُصنع في كواليس السياسة، بل على أرض الواقع، حتَّى غدت مصدرَ قلقٍ حقيقيٍّ لقادة إسرائيل، وهزيمةً غيرَ مسبوقة في تاريخهم.. والأهم من ذلك، أنَّ استثمارها لم يَعُدْ رهنًا بإرادة السياسيِّين وحدهم، بل بإرادة كلِّ فلسطينيٍّ، وكلِّ مؤمنٍ بالعدالةِ والإنسانيَّةِ في هذا العالم، بما في ذلك أصواتٌ عديدةٌ داخل إسرائيل نفسها.
وقد عبَّر «نتنياهو» مؤخَّرًا عن قلقه إزاء هذا الأمر، حين قال بمرارةٍ: «إنَّ وسائل القتال في الحروب تغيَّرت، وعلى إسرائيل أنْ تستخدم أسلحةً جديدةً، أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي، وتيك توك». وقبل ذلك بسنواتٍ، كتب المفكِّر الإسرائيليُّ «ناحمان شاي» في صحيفة جيروساليم بوست؛ أنَّ «قوَّة الدبلوماسيَّة النَّاعمة في عصر التكنولوجيا لا تقلُّ -بل تفوقُ- أهميَّة القوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة بالنسبة لإسرائيل».
لقد تناولتُ هذه الانتكاسة الإعلاميَّة الإسرائيليَّة في مقالٍ سابقٍ لي نُشر في نوفمبر 2023 بعنوان: (هل بدأت جبهة الإعلام الإسرائيليَّة بالانهيار؟)، قلتُ فيه: «هذا التفوُّق يتطلَّبُ إستراتيجيَّةَ عملٍ إعلاميٍّ فلسطينيَّةً موحَّدةً، خاليةً من الصراعات الداخليَّة، والتأثيرات الخارجيَّة.. إستراتيجيَّة تحمل رسائل دقيقة ومدروسة تُبث بكثافة؛ عبر مختلف المنصَّات واللُّغات».
واليوم، يتبيَّن أنَّ تلك الانتكاسة الإسرائيليَّة وقعت فعلًا، وبوتيرةٍ أسرعَ وأوسعَ من كلِّ التوقُّعات، مدفوعة بزخم الإعلام الرقميِّ، وبفظاعة القتل والدَّمار الذي ارتكبته إسرائيلُ على مرأى من العالم؛ ما شكَّل جرسَ إيقاظٍ عالميًّا لضمائر الملايين من مختلف الجنسيَّات والدِّيانات.
وفي ضوء هذه المستجدَّات، تتأكَّد الحاجة اليوم إلى أربع خطوات أساسيَّة أمام الفلسطينيِّين:
1- الاستفادة الفوريَّة من التفوُّق الرقميِّ غير المسبوق، ومواجهة تحيُّز وتلاعب «الخوارزميَّات» بعدالة القضيَّة، وتوعية الرأي العام، وعرض وحشيَّة العدوان بوسائل مؤثِّرة ومختلفة.. مع الاستعداد لمحاولات إسرائيل -كما قال «نتنياهو»- للسيطرة، وبسط النفوذ على الفضاء الرقميِّ، كما فعلت سابقًا في الإعلام التقليديِّ. 2- التوظيف الأمثل لأنشطة الدعم ومهارة السَّرد، فالتاريخ، والجغرافيا، والمنطق مع الفلسطينيِّين، وجهود إلقاء اللَّوم يجب أنْ تُوجّه نحو طاقاتهم المنتشرة في العالم -عددًا، وعلمًا، ومالًا، ومناصبَ مؤثرةً-؛ لكي تقوم بدورها السلميِّ النَّاعم بتعريف شعوب العالم بحقيقة ما جرى ويجري لهم.
3- تفعيل مصادر القوَّة النَّاعمة الفلسطينيَّة، من ثقافةٍ وفنونٍ، وسينما، ومسرح، وأدب؛ لتعريف العالم بالإنسان الفلسطينيِّ قبل كلِّ شيءٍ.
4- إنشاء متحف غزَّة: فإذا كان لإسرائيل أكثر من (265) متحفًا ونُصبًا تذكاريًّا في (49) دولةً حول العالم، فلماذا لا يكون للفلسطينيين متاحفهم، ونصبهم التذكارية -الواقعية والافتراضية- التي تروي قصتهم بالصور، والسجلات، ولقطات الفيديو، والوثائق التاريخية، وشهادات الشهود من منظَّمات دوليَّة، وكُتَّاب ومُفكِّرين يهود مُنصفِين، أمثال البروفيسور «جيفري ساكس»؟.. هذه المتاحف ينبغي أنْ تُوثَّق فيها المجازر الإسرائيليَّة، وأسماء الضحايا، وأعمارهم، وصورهم، على أنْ يبدأ المشروع في دولٍ ذات كثافة سياحيَّة، مثل: تركيا، وإسبانيا، واللتين توجد بهما مراكز ثقافيَّة، ونُصُب تذكاريَّة توثِّق معاناة اليهود عبر التَّاريخ.
ختامًا، كما تحوَّل الظُّلمُ الذي وقعَ على اليهود -في السابق- إلى قوةٍ رمزيَّةٍ عالميَّةٍ عبر المتاحف، والذاكرة الجماعيَّة، يمكن للفلسطينيِّين أنْ يحوِّلوا آلام غزَّة ومآسيها إلى ذاكرةٍ خالدةٍ، ومتاحفَ ناطقةٍ، تخرجُ بهم من نفق الفرص الضَّائعة؛ إلى فضاءٍ جديدٍ من الوعي الإنسانيِّ والعدالة.
الأمر لن يكون سهلًا، ولكنَّه حتميٌّ.
متحف غزة.. الخروج من نفق الفرص الضائعة
مواضيع ذات صلة