كما اشتُهر عن مؤسساتها التعليمية، وشركاتها التكنولوجية، تعاونها الوثيق مع أفضل مختبرات العالم، وأشهر جامعاتها، وهذا ساهم في تشكيل صورتها الإيجابية الدولية، إضافة لذلك، يعتمد نفوذها العالمي اليوم على التحالفات الاستراتيجية وقوتها الاقتصادية الضخمة، وتعدد شركاتها المدرجة في الأسواق العالمية، وباختصار، تعتبر إسرائيل، بشعبها المتعدد الثقافات والأعراق، وما اشتهرت به من إبداع في عشرات المجالات، دولة مثلى، لولا المحيط المعادي، والمكان الخطأ، الذي اختارت التواجد فيه، بناء على تخيلات وأوهام توراتية، ورغبات ومخططات استعمارية.
يبلغ عدد سكان إسرائيل 10 ملايين، بينهم مليونا عربي، وتبلغ مساحتها 25 ألف كم² (+-)، وناتجها المحلي يبلغ 560 مليار دولار، ويحتل اقتصادها المرتبة الـ25 عالمياً. أما غزة، ذلك الشريط الساحلي، الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومتراً²، فقد تحوّلت منذ عام 1948 إلى مخيم لاجئين ضخم، تورّم ليصل عدد سكانه إلى أكثر من مليونين، فإنها ليست دولة لديها موازنة أو موارد مالية، ويعيش سكانها على وكالة الغوث، أو العمل في إسرائيل، بنظام اليومية.
منذ النكبة والخروج والدخول للقطاع صعب جداً، فقد كان دائماً مقطوعاً عن العالم، فلا حدود معلومة له، ولا مطارات ولا سفارات، ولا صفة قانونية، ولا جوازات سفر، ولا اعتراف ولا حقوق سياسية، ولا كهرباء ولا ماء ولا وقود، بخلاف ما يأتيه من إسرائيل. ولا يزيد دخل الغزاوي السنوي على 900 دولار، مقارنة بـ55 ألف دولار للإسرائيلي. وفي ظل كل هذه الفوضى والحرمان نجحت منظمة دينية متشددة في السيطرة على القطاع، بالحديد والنار، وقطعت صلتها، بالدم غالباً، بالسلطة الفلسطينية، ومع الوقت، تحول القطاع، بطريقة رهيبة في دقتها ومثابرتها، إلى قلعة عسكرية، فشلت إسرائيل في ترويضها، فتركتها لحالها، لينفجر طوفان الأقصى في 7 أكتوبر في وجه الجميع، ليعيد تذكير اليهود بالهولوكست، وليتحرك كامل جيشها ليقضي على «حماس»، ويطلق سرح أسراها. لكن تبيّن، بعد أكثر من 700 يوم، وقتل 70 ألف غزاوي، أن شوكة «حماس» عصية على الكسر، وعلى الرغم من كل تقنيات وخبرات ومخابرات إسرائيل، التي فشلت حتى في معرفة أين أخفت «حماس» أسراها وجثث موتاها.
صلابة «حماس»، وتضحياتها، وما اقترفته إسرائيل في غزة من مذابح، أيقظت الضمير العالمي بصورة غير مسبوقة، مما دفع الولايات المتحدة، وكل الحكومات الأوروبية، في نهاية الأمر، لأن تضغط على إسرائيل لوقف حربها، وتجبرها على التفاوض مع «حماس» على شروط إنهاء القتال بينهما. وهكذا نجحت الحركة في أن تمرّغ أنف إسرائيل، وأنف كل من وقف معها ومع حربها، من مخدوعين وعملاء معروفين. فمن كان يتصوّر أن تنجح منظمة عسكرية متطرفة متناهية الصغر، مهلهلة، بمعداتها وأسلحتها ومعلوماتها ومخابراتها، وشح أموالها، في أن تنتصر على أقوى جهاز عسكري واستخباراتي سيبراني وتقني عرفه العالم؟
قد تتلاشى الأحلام في سلام سريع، فلا يزال البون العلمي والتقني، بيننا جميعاً، وبينها، كبيراً، لكن قبلها علينا الاعتراف بأن ما قامت به «حماس»، حتى الآن، يعتبر نقطة تحول رهيبة وكبرى في «مقاومة الغزاة»، وفي تاريخ العرب الحديث، الذي لم يتضمن غير الهوان والهزيمة. فحلم «فلسطين مستقلة» أصبح أقرب مما كان، وحلم التوسّع الإسرائيلي من النيل للفرات أصبح أقرب للوهم، وحلم زوال «أيباك» أصبح قابلاً للتحقيق، والأهم أن عنجهية وغطرسة إسرائيل.. إلى زوال!
أحمد الصراف