: آخر تحديث

المعطف بين الوجود والكرامة

2
2
2

أكاكي أكاكيفتش، الموظف الوحيد والبسيط في بطرسبرغ، عاش حياة رتيبة لا تكاد تتجاوز حدود مكتبه وأوراقه. لم يكن يُرى إلا بين الملفات التي ينسخها، حتى أنه حين يعود إلى غرفته المظلمة يواصل النسخ من جديد. حياة ضيقة، متقشفة، لا يعرف فيها سوى مهمته المكررة التي التصقت به حتى صارت وجوده الوحيد.

وفجأة، كان اقتراح الحائك بأن يستبدل معطفه المهترئ بآخر جديد قد أقلقه. لم يتصور يومًا أن يتخلَّص من معطفه القديم تمامًا. كما لم يتصور أن يتمرد على رتابة وظيفته حين عرض عليه أحد زملائه أن يحدث فيها شيئًا جديدًا. إلا أن فكرة المعطف أخذت تكبر في داخله حتى صار يجمع ثمنه بجهد شاق؛ يستغني عن الشاي وشمعة المساء، يقلِّل طعامه، يقتصد في كل ما يملك، ليحلم في النهاية بامتلاك معطف جديد.

كان المعطف بالنسبة إليه أكثر من لباس؛ كان صورة مصغرة لحياة البسطاء الذين تتعلق كرامتهم وأحلامهم بأبسط الأشياء. ولأول مرة، حين ارتدى معطفه الجديد، شعر أكاكي أنّ له قيمة في عيون الآخرين. زملاؤه رأوه متأنقًا، فدعوه إلى حفلة العشاء، فاختلطت مشاعره بين الزهو والخجل، بين الرغبة في الظهور والرغبة في الانسحاب. وحين سار في شوارع المدينة شعر أن الشوارع تتسع، والأضواء تتوهج، والمارة يتباهون بأناقتهم ومعاطفهم، وهو الآن لا يختلف عنهم.

لكن هذه اللحظة لم تدم طويلًا. فبعد أن نفض الغبار عن معطفه قبل خروجه من بيت صديقه وهمَّ بالعودة، أصبحت الشوارع أضيق، والأضواء بدأت تخفت، حتى المارة لم يعودوا كما كانوا قبل لحظات. وبينما تملكه القلق، اعترضه لصان وسرقا معطفه، وفرا وهو في حال من الإنهاك والانكسار. تنقَّل بين مكاتب الشرطة دون أن يكترث به أحد، حتى انكفأ إلى فراشه مثقلًا بالخذلان، ولم تمضِ أيام حتى مات.

هنا، يكشف لنا قوقول مأساته: كيف يمكن أن يُختزل وجود الإنسان وكرامته في شيء بسيط، ثم يُسلب منه فلا يبقى سوى الألم. إلا أن الكاتب لا يتوقف عند هذا الموت. فشبح أكاكي يعود ليخطف معاطف الآخرين، كأنه يصرخ في وجوههم: لم يكن معطفي شيئًا حقيرًا، بل كان اعترافي بوجودي وكرامتي.

ولعل أعظم ما أبدعه قوقول في المعطف هذه القدرة الفريدة في الانتقال من الواقعية المفرطة إلى الغرائبية الصادمة. فقد صوَّر حياة أكاكي بدقةٍ تكاد تجعل القارئ يحس بثقل أوراقه وسترته الممزقة ورائحة أقسام الشرطة وهو يتصبب عرقًا، ثم فجأة، بعد موته، ينقلنا إلى عالم الأشباح، حيث يعود في هيئة طيف يتخطف المعاطف. هذا الانتقال لم يكن قفزة اعتباطية، بل استمرار منطقي للواقع نفسه: حين يغيب العدل، لا يبقى سوى أن يظهر شبح يطالب بالكرامة المسلوبة.

تجلت براعة قوقول في جعل الغرائبي امتدادًا للواقعي، كأن الحياة لا تكتمل إلا بكل أطيافها وظلالها.

المعطف عند قوقول ليس مجرد لباس، بل هو رمز للوجود والعدالة. إنه الكرامة التي لا يجوز لها أن تُسلب، والحق في أن يُنظر إلى الإنسان، ويُحفظ له مكانه في العالم. وإذا كان أكاكي قد مات وحيدًا، فإن شبحه باقٍ يذكّرنا أن العدالة وحدها هي ما يحفظ للإنسان معنى وجوده.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد