: آخر تحديث

عين على أوجاع إسرائيل

6
6
7

محمد خالد الأزعر

قبل أحداث السابع من أكتوبر وتوابعها ببضعة أعوام، كان ما سمي بـ «معسكر السلام الإسرائيلي» قد انزاح إلى هامش العملية السياسية في تل أبيب.. وذلك في مقابل تمدد نفوذ «المتطرفين اليمينيين»، العلمانيين والدينيين على حد سواء، بزعامة بنيامين نتانياهو.

سياق أحداث أكتوبر ومقتلة غزة الكبرى، أدى إلى تعزيز هذا التمايز.. حتى كاد نتانياهو ورهطه ينفردون بالتغريد وحدهم في أفق الدولة، رافعين شعارات مبتذلة، لكنها ظلت قادرة على الاستقطاب الشعبوي من قبيل: نعيش حرب استقلال ثانية، مهددون بخطر وجودي، إما نحن وإما هم!

أثناء استغلالهم لهذه الشعارات في عمليات التعبئة، وكذلك في المداراة على جرائم الإبادة والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، لم يلحظ «حربجية إسرائيل» أن للحروب عموماً ارتدادات سلبية لا ينجو منها حتى الطرف المعتدي المنتشي بقوته الفائضة، وعليه فإن النجاح الدعائي في حشد جماهير اليهود للدفاع عن دولتهم، قابله شيء من الفشل في إقناع البعض منهم بصحة مسار هذه الدولة وسلامة مصيرها، طالما أنها منغمسة في حرب دموية شبه أبدية! نود القول إن خطاب نتانياهو وبطانته سيطر حقاً على عقول الكثيرين..

لكن الساحة الإسرائيلية لم تخل من أصوات عادت إلى التحليق، وإن بصعوبة خارج السرب وقد علت نبرة هذه الأصوات، بعد التأكد من أن تشدد نتانياهو وراء استمرار القتال الذي يعرض الأسرى للهلاك، مصدره إلى حد كبير التعمية على فساده وتعطيل إجراءات محاكمته، لا مصلحة الدولة فقط وتحديداً!

الأكثر أهمية في دلالته، تسرب نتائج بعض الاستطلاعات غير الشفافة التي رصدت تخلي قطاع واسع من اليافعين اليهود تحت سن الثلاثين، عن القناعات المعلبة مثل الاعتقاد بقداسة أرض الميعاد، والحنين للتجذر فيها والدفاع عنها..

وتنكرهم لفكرة طهرانية اليهود وعدم قابليتهم للفساد المادي والأخلاقي، لأنهم غير متميزين عما عداهم من الجوييم (الأغراب)، بشهادة أفعالهم في غزة. لسنا هنا بصدد ظاهرة عابرة.. فمؤشرات انكسار الصورة المثالية للمستوطن اليهودي الذي يحمل الفأس والبندقية، كانت تتلصص في أحشاء إسرائيل منذ فترة ليست بالقصيرة.

فقبل نحو عقدين أثبتت نتائج بحث ميداني أن الإقبال على استيطان الأرض المحتلة عام 1967، لا يستند في حالات كثيرة إلى إيمان بالمزاعم التي تطرق رؤوس اليهود حول أحقيتهم في أرض إسرائيل التوراتية، وإنما ينبني على حسابات انتهازية دنيوية تمارس فيها الإغراءات الاقتصادية دوراً كبيراً إن لم يكن حاسماً..

فكثير من المستوطنين يتطلعون إلى التمتع بأثمان الشقق الزهيدة والعطايا والخدمات الحكومية التفضيلية للاستيطان.. وهي حوافز تضاعفت بشدة تحت رعاية الحكومات التي قادها نتانياهو خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

ولأن كثيراً من مستوطني الضفة والقدس يعملون داخل إسرائيل 1967 ويتملكون فيها شققاً، فقد شبه باحث إسرائيلي بعض مستوطنات الضفة بأنها مجرد منتجعات سياحية لقضاء الإجازات، والحصول على تعويضات مجزية إذا ما أجبر المستوطنون على إخلائها ذات حين.

لنا أن نلحظ أيضاً كيف أن غالبية القطاعات الشبابية اليهودية في مواطنهم الخارجية الأم لم تعد تتعاطف مع دعاوى الهجرة إلى إسرائيل. وبين هؤلاء من بلغ به الوعي حد التساؤل عن الصحة العقلية للمروجين بأن هذه الدولة تشكل ملاذاً نهائياً آمناً لهم، فيما يقول الواقع إنها الكيان الذي يعاني سكانه أزمة أمن لا تعرفها أي جماعة يهودية أخرى!

كان من الطبيعي أن تتجلى عقدة هذا التساؤل وتتضخم في ضوء مجريات حرب غزة. يقول أحد التقارير ذات الصلة أنه بينما كان نتانياهو يتحدث في زياراته الأخيرة لواشنطن عن الأخطار التي تواجه إسرائيل، كان جيل الشباب اليهودي الأمريكي بعيد كلياً عن الإصغاء له.. فمعظم هذا الجيل مهادن وليبرالي، رافض تماماً لاحتلال أراضي الغير وينشد الحياة الوادعة.

علاوة على التحولات المثيرة في منظورات الشباب اليهودي في مواطنهم الأم، يموج الداخل الإسرائيلي بحراكات تشي ببعض التصدعات. ومن ذلك الانخفاض الحاد في نسبة المستجيبين لأداء خدمة الجيش الاحتياطية.

وتزايد عدد الشبان الرافضين للتجنيد من الأصل، وارتفاع معدلات الهجرة المضادة.. وليس بلا مغزى في هذا المضمار، التظاهرات الحاشدة بين الحين والآخر للشبان الحريديم (المتشددين دينياً)، الرافضين لأداء خدمة العلم. تمثل إسرائيل حالة اجتماع سياسيي استيطاني استثنائي يعتمل تحت جلده وفي أحشائه كثير من المعطيات السلبية القابلة للتفاقم والاستعصاء على العلاج..

لكن شهية النخب الحاكمة المفتوحة للحرب بلا انقطاع وعلى أكثر من جبهة، يبقى لها مفعول السحر في التغطية على هذه التفاعلات. والحقيقة أنهم ما زالوا يجيدون هناك استخدام شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة».. والسؤال هنا هو إلى متى؟!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد