: آخر تحديث

كركوك... بين النفط والهوية

4
4
4

تُعدّ كركوك من أبرز المناطق المتنازع عليها في العراق، حيث تتداخل فيها الأبعاد القومية والاقتصادية والسياسية، ليس اليوم فقط، بل منذ اكتشاف النفط في المدينة عام 1927، أصبحت كركوك مركزاً للصراعات بين الأنظمة السياسية العراقية وبين الكرد وقياداتهم على مر القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ناهيك عن تدخلات القوى الإقليمية والدولية، حيث شهدت المدينة سياسات تغيير ديموغرافي ممنهجة، خصوصاً خلال فترة حكم حزب البعث؛ ما أدى إلى تعقيد المشهد السكاني والهوية الثقافية للمدينة.

وبعيداً عن الخوض في تفاصيل عمليات التغيير الديموغرافي وتهجير مئات الآلاف من السكان الأصليين واستبدال آخرين بهم مستقدمين من محافظات الجنوب والوسط العراقي وبإغراءات كبيرة، فإن إسقاط نظام الحزب الواحد أتاح فرصة لإيقاف تلك العمليات وتصفية تداعياتها وإحقاق الحق لسكانها، حيث عالجت الجمعية الوطنية التي سبقت البرلمان الحالي تلك القضية بإصدار قانون إدارة الدولة الذي وضع خريطة طريق لحل مشكلة كركوك والمناطق الأخرى التي تعرَّضت لتغييرات على أسس عرقية وقومية في المادة 58 من القانون، إلا أن الأحداث السياسية المتلاحقة منعت من تطبيقها فتم تضمينها بمادة دستورية دائمة هي المادة 140 من الدستور العراقي الدائم.

قبل اكتشاف النفط، كانت كركوك مدينة متعددة الأعراق تضم غالبية من الكرد، والتركمان، وأقلية من العرب، حتى اكتُشف النفط واستقدم البريطانيون مئات العمال العرب مع عوائلهم، حيث ازدادت أهمية المدينة ونزح إليها الفقراء بغية العمل في الشركات البريطانية؛ ما دفع الحكومات المتعاقبة منذ تشكيل المملكة العراقية إلى توطين تلك العوائل بإجراءات ديموغرافية لصالحها، ثم أصبحت نهجاً سياسياً مبرمجاً منذ سيطرة حزب البعث على الحكم في فبراير (شباط) 1963 وحتى سقوطه في 2003، حيث تم تنفيذ سياسات تغيير ديموغرافي حادة وممنهجة، استهدفت الكرد والتركمان، وذلك بتهجيرهم من المدينة واستقدام آخرين من مناطق جنوب ووسط العراق لتغيير التركيبة السكانية، وقد شملت هذه السياسات مصادرة الأراضي الزراعية والممتلكات العقارية من البيوت والعمارات، وتغيير الأسماء الكردية والتركمانية إلى عربية، بالإضافة إلى فرض اللغة العربية فقط في المؤسسات التعليمية والحكومية كافة.

بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين، تم الاعتراف بضرورة معالجة قضية كركوك والمناطق المتنازع عليها في قانون إدارة الدولة ومن ثم في الدستور الدائم حيث نصت المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005 على ثلاث مراحل لحل النزاع:

1. التطبيع: إلغاء سياسات التعريب وإعادة المهجرين إلى مناطقهم الأصلية.

2. إجراء إحصاء سكاني: لتحديد التركيبة السكانية الحقيقية للمدينة.

3. استفتاء: يُقرر من خلاله سكان كركوك وغيرها من المدن والبلدات مصير مدينتهم، سواء بالانضمام إلى إقليم كردستان أو البقاء تحت إدارة الحكومة الاتحادية، وكان من المقرر الانتهاء من هذه المراحل بحلول نهاية عام 2007، إلا أن التنفيذ تعثر بسبب الخلافات السياسية، والتوترات الأمنية، والتدخلات الإقليمية.

لعبت القوى الإقليمية، خصوصاً تركيا وإيران، دوراً مؤثراً في قضية كركوك، بخاصة تركيا بسبب وجود أقلية تركمانية في المدينة، فقد عارضت أي تغيير قد يؤدي إلى سيطرة كردية كاملة على كركوك، التي تطمح من خلال تلك الأقلية الهيمنة على مقدراتها، خصوصاً وأنها منبع مهم من منابع النفط العراقي، وخشية من انتشار عدوى الاستقلال الذاتي إلى المناطق الكردية جنوب تركيا، وهي الأسباب ذاتها التي تؤرّق إيران التي تسعى للحفاظ على نفوذها في العراق وتعارض توسع سلطة إقليم كردستان، بخاصة مع وجود قضية كردية داخل إيران أيضاً.

كانت الولايات المتحدة لاعباً رئيسياً بعد عام 2003، حيث سعت إلى تحقيق توازن بين مكونات العراق المختلفة، إلا أن سياساتها لم تؤدِ إلى حل جذري للنزاع رغم كل محاولاتها، وهذا ما اتضح جلياً في الهجوم العسكري على كركوك وبقية المناطق المشمولة بالمادة 140 الذي شنته فصائل الميليشيات والحشد الشعبي وبعض قوات الجيش في مخالفة صريحة للدستور الذي يحرم تدخل القوات المسلحة في النزاعات السياسية داخل البلد، حيث لم تتدخل الولايات المتحدة وسمحت لتلك القوات باجتياح كركوك ومناطق واسعة كانت تحت سيطرة الإقليم منذ أبريل (نيسان) 2003م.

- استفتاء إقليم كردستان 2017: في 25 سبتمبر (أيلول) 2017، أجرى إقليم كردستان استفتاءً للاستقلال شمل كركوك؛ ما أثار حفيظة الحكومة الاتحادية والدول الإقليمية، ورداً على ذلك، نفذت القوات العراقية عملية عسكرية في أكتوبر (تشرين الأول) 2017 لاستعادة السيطرة على كركوك والمناطق المتنازع عليها، عدّتها حكومة الإقليم منافية للدستور الذي ينص بتحريم تدخل الجيش والقوات المسلحة في النزاعات السياسية في الداخل، وقد أدى ذلك إلى انسحاب قوات البيشمركة الكردية من المدينة تحسباً لاتساع القتال وتحوله حرباً أهلية.

- الأوضاع الحالية: لا تزال كركوك تحت إدارة الحكومة الاتحادية، مع استمرار التوترات بين المكونات المختلفة بسبب هيمنة الميليشيات الولائية لإيران رغم قرار المحكمة الاتحادية في ديسمبر (كانون الأول) 2022، الذي وجّه الحكومة العراقية إلى تفعيل المادة 140، إلا أن الأمر لم يطبق بعد بسبب هيمنة تلك الميليشيات على أوضاع المحافظة.

يمكن النظر في المقترحات التالية لحل النزاع لحل معضلة كركوك:

1. الإسراع بتفعيل المادة 140: تنفيذ المراحل الثلاث للمادة 140 بشفافية وبإشراف دولي لضمان حقوق جميع المكونات.

2. إدارة مشتركة: تشكيل مجلس إدارة يضم ممثلين عن الكرد والتركمان والعرب والآشوريين لإدارة شؤون المدينة بشكل مشترك.

3. تقاسم عائدات النفط: وضع آلية عادلة لتوزيع عائدات النفط بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان وسكان كركوك، بما يضمن التنمية المستدامة للمدينة.

4. ضمانات دولية: طلب دعم ومراقبة من الأمم المتحدة أو جهات دولية أخرى لضمان تنفيذ الاتفاقات وحماية حقوق جميع الأطراف كي لا تظل كركوك رمزاً للتعقيدات السياسية والعرقية في العراق.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد