علي عبيد الهاملي
كان يتنقل بين السيارات والابتسامة لا تفارق وجهه. شاب أفريقي في أواخر العشرينيات من عمره كما بدا لي. اقترب من نافذة السيارة التي كانت تقف أمامي فأنزل سائقها زجاج النافذة وأخبره عن نوع الوقود والكمية والطريقة التي سيدفع بها.
اتسعت ابتسامة العامل الأفريقي، وعرض على سائق السيارة أن يسكب في خزان الوقود سائلاً من علبة كان يحملها في يده لتنظيف الموتور، فأجابه السائق بعدم رغبته في ذلك، تماماً مثلما أفعل أنا أيضاً في محطات تعبئة الوقود على الرغم من تعاطفي مع العمال المطلوب منهم الترويج للسائل.
وفي الوقت الذي كان العامل الأفريقي يستدير فيه من خلف السيارة التي أمامي كي يملأ خزان وقودها، كنت أنا أرفع زجاج نافذة سيارتي لأواصل الاستماع إلى الكتاب الصوتي الذي كنت أستمع إليه قبل وصولي إلى محطة تعبئة الوقود.
موقف شبه يومي يصادف الكثيرين منا، ليس في محطات تعبئة الوقود فقط، وإنما أيضاً في الأسواق والمحال وورش تصليح السيارات وغيرها من الأماكن التي نتعامل فيها مع عمال ومقدمي خدمات قادمين من شتى أصقاع الدنيا، فلماذا لفت نظري هذا المشهد اليوم؟
وأي أفكار تزاحمت في رأسي هذه المرة؟ وهل ثمة شيء مختلف كان في وجه الشاب الأفريقي الذي رأيته هذا الصباح؟ وهل أصبح شيئاً نادراً أن نرى عاملاً يبتسم وهو يمارس عمله؟ هل أصبحت البشاشة مثيرة للانتباه إلى هذا الحد في هذا الزمن؟
هذه الأسئلة وغيرها تزاحمت في رأسي عن دخل هذا الشاب الشهري، وهل يفي هذا الدخل بالتزامات حياته في بلدٍ تكاليفُ العيش فيه مرتفعة عن بلده الأصلي؟
وهل ثمة أسرة في بلده هناك تنتظر منه في نهاية كل شهر مبلغاً مالياً يقتطعه من راتبه البسيط كي يحوله إليها لتواجه متطلبات الحياة التي دفعت ابنها للسفر على الرغم من حاجتها إليه وحاجته إلى البقاء معها؟ وكيف يستطيع أن يقسم هذا الراتب بينه وبين أسرته المنتظرة هناك؟
أتساءل كيف يستطيع أن يفعل هذا ويبقى محتفظاً بهذه الابتسامة التي لا تفارق وجهه، في الوقت الذي يشعر بالضيق فيه آخرون تفوق دخولهم دخله كثيراً، ويشكون طوال الوقت من عدم قدرتهم على ضبط ميزانياتهم.
وأستعيد مجموعة القصص والحكايات والشكاوى التي أحوال أصحابها أفضل من حال هذا العامل البسيط، الذي أراه يقفز من الناحية الأخرى برشاقة ليخرج فوهة الخرطوم من باب خزان وقود السيارة التي أمامي، ويغلق باب الخزان رافعاً إبهام قبضة يده اليمنى في إشارة إلى أنه أصبح بإمكان صاحب السيارة أن يتحرك بعد أن أنهى العامل مهمته، من دون أن تفارق الابتسامة محياه؟
تحضرني مقولات كثيرة عن القناعة التي هي كنز لا يفنى، وعن الصبر الذي يجب أن يتحلى به البشر جميعاً، والمؤمنون منهم على وجه الخصوص، لمواجهة أعباء الحياة، وعن الرضا بما قسمه الله، وعن الأرزاق التي وزعها الخالق بنسبٍ قد لا تبدو لنا نحن البشر منطقية لأننا لا نعرف الحكمة الإلهية من وراء هذه القسمة، ويدور داخلي حوار يبدو في ظاهره صامتاً.
ولكنه في باطنه صاخبٌ صخبَ الأسئلة التي أبحث لها عن إجابات صريحة يستوعبها العقل وترتاح لها النفس بشكل لا يقود إلى المسارات الخاطئة التي حذرت منها الأديان كلها، وجاءت الرسالات السماوية لتمنع الناس من الانجراف إليها، والوقوع في حبائل الشيطان الذي يحاول الوسوسة في صدور الناس كي يقودهم إلى المآلات غير السعيدة التي حذرهم الله منها.
أستعيذ برب الناس من شر الوسواس الخنّاس، وأعود لمواصلة طريقي محاولاً أن أطرد من رأسي هذه الأفكار التي تفتح عمل الشيطان، ولكنني أستحضر في ذهني عدد الأثرياء الذين رأيتهم أو قرأت عنهم ونادراً ما رأيت ابتسامةً على وجوههم، ثم أعود مرة أخرى إلى وجه العامل الأفريقي الذي لم تفارق الابتسامة وجهه طوال مدة وقوفي في محطة تعبئة الوقود، حتى خلته سوف يرقص من السعادة.
ويعود الباب لينفتح على أسئلة كثيرة حاولت إغلاقه دونها قبل قليل، وأجد نفسي مضطراً لإعادة آخر مقطع من الكتاب الصوتي الذي أسمعه، لأن أفكاراً كثيرة تواردت على ذهني أفقدتني التركيز الذي أحتاجه وأنا أستمع.