حتى وقت قريب، ساد اعتقاد بين خبراء الاستراتيجيا بأن زمن تمدد الإمبراطوريات ولى، وأن هذا "الشكل السياسي" في تاريخ الاجتماع البشري انتهى، بإسدال الستارة على "الحرب العالمية"، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن يبدو أن عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ستقلب الأمور رأساً على عقب. أثار ترامب ضجة واسعة حول العالم، بإطلاقه تصريحات مثيرة أخيراً، عن رغبته في ضم جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك إلى الولايات المتحدة، وكذلك كندا وربما غزو المكسيك والسيطرة على قناة بنما. رغبات "تمدد إمبراطوري" تثير إشكاليات هائلة، تلقي بظلالها على النظام العالمي، وتنشر الرعب في أرجاء الكوكب. لا فرق هنا بين نوايا ترامب في ولايته الجديدة ونوايا هتلر خلال الحرب العالمية الثانية أو صدام حسين عندما احتل الكويت. كان شعار الرجل خلال الانتخابات "أميركا أولاً"، وهي عبارة براقة تنطوي على دلالات الشعبوية والنرجسية الوطنية. دلالات قد تكون متفجرة! عود على بدء، يعرف التاريخ صعود قوى كبرى؛ تظهر في مكان بعينه، ثم تتوسع جغرافياً، لتصل بسيطرتها إلى أقصى حيز ممكن. منذ الإمبراطورية الرومانية، مروراً بالإمبراطوريتين الفرنسية والإنكليزية، وصولاً إلى الولايات المتحدة. اليوم يعود ترامب إلى المكتب البيضوي بشعار "أميركا أولاً". صحيح أنه وعد بإطفاء الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، بيد أن سياسته الخارجية لن تكون أقل عدوانية من سابقيه، أما الأخطر فهو تخليه عن البقية الباقية من "الأسس الأخلاقية" في الممارسة السياسية. سبق لترامب أن طالب حلفاء أميركا بأن يدفعوا ما سماه "أثمان حمايتهم"، وهدد بالخروج من "حلف شمال الأطلسي"، قال: "لقد دافعنا عن حدود الدول الأخرى، ورفضنا الدفاع عن حدودنا، وأنفقنا تريليونات الدولارات بالخارج، بينما تدهورت البنية التحتية الأميركية. جعلنا دولاً أخرى غنية، وتبددت ثروة بلدنا وقوتها". الولايات المتحدة اليوم هي القوة العظمى الأولى - وربما الوحيدة -عالمياً، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، تغطي مصالحها قارات الدنيا، مع ذلك تدور تساؤلات حول استراتيجية واشنطن للاستفراد بمكانتها الاستثنائية المهيمنة، وإفشال المنافسين. وتأتي تصريحات ترامب بشأن ضم غرينلاند وكندا وبنما والمكسيك لتصب المزيد من الزيت على نار "القلق العالمي". إننا أمام تحول أميركي من حماية الحلفاء إلى احتلالهم؛ إرهاص مفزع باستئناف عهد الإمبريالية أو المد الاستعماري الأميركي بصور مختلفة، وصولاً إلى الغزو العسكري التقليدي لو استدعى الأمر، على نحو ما كشف عنه زعماء هذه الدول المعنية. أكدت ميتي فريديريكسن، رئيسة وزراء الدنمارك أن "غرينلاند ملك لنا، نحن لسنا للبيع ولن نكون"، وأعلن خوسيه راؤول مولينو رئيس بنما أن بلاده لن تسلم متراً من القناة لأي أحد، وبينما استشعر رئيس الوزراء الكندي المستقيل جاستن ترودو الحرج، أعلنت الرئيسة المكسيكية كلوديا شينباوم أن الأمر أقرب إلى "الفيلم السينمائي"، وأضافت: "بالطبع نرفض غزو بلادنا". كانت الولايات المتحدة نفسها، ذات يوم، تابعة للإمبراطورية البريطانية. انتزعت استقلالها بعد كفاح من أجل الحرية، وبمرور الوقت تحولت إلى قوة مهيمنة تحكم الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. رفعت سياساتها الخارجية شعارات أخلاقية تدّعي نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان وإعلاء القانون الدولي، ما يتناقض مع فكرة "الإمبراطورية" التي أخذت تعود إلى الخطاب السياسي الأميركي. في مقال بمجلة "فورين أفيرز" أوضح البروفسور أندري ج. باسيفيتش، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بوسطن، أن الأميركيين مخدوعون بالأحلام الزائفة للهيمنة، بسبب ذكريات الحرب العالمية الثانية. بهزيمتها ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية، أصبحت القيادة الأميركية للعالم المدعومة بقوة عسكرية جارفة ضرورة، في المخيلة الجمعية الأميركية، ثم زعزعت حرب فيتنام تلك الأوهام، غير أن انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية الحرب الباردة أعاد إحياءها، مع أن فشل مغامرات واشنطن، في أفغانستان والعراق في ما عرف بالحرب على الإرهاب، عقب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، فضح مزاعم التفوق العسكري، وها هو ترامب يفكر بتوسيع الهيمنة الأميركية على أراضي الآخرين. بالطبع يسعى الرئيس الأميركي لمنع المنافسين، بخاصة روسيا والصين، من السيطرة على القطب الشمالي، لاسيما مع التغير المناخي وتراجع الثلوج، ومن ثمّ التحكم بالممرات الملاحية الاستراتيجية والمعادن النادرة عبر السيطرة على غرينلاند، أو تحويل الولايات المتحدة إلى دولة قارة بضم كندا والمكسيك، وربما أكثر بالسيطرة على بنما. تتشبث مؤسسة السياسة الخارجية بأسطورة أن "ما يحتاجه العالم هو المزيد من القوة العسكرية الأميركية"؛ وبالتالي تظل حدودها في حالة سيرورة دائمة، للحصول على تسهيلات عملياتية وضمان معادلة القوة. المفارقة أنه كلما تمددت الإمبراطورية توسعت حدودها، ما يؤجج رغبتها في الغزو، ويجعل حماية تلك الحدود أكثر صعوبة، وتنتج عن كل غزو حدود جديدة يتوجب تأمينها، وعليه لا يمكن فهم تصريحات ترامب - لو كان جاداً - إلا بوصفها بوادر انقلاب استراتيجي عالمي، إعصار من نار، ستكون له تداعياته إقليمياً ودولياً، وقد تحرق ألسنته الشرق الأوسط بالتبعية.
انقلاب استراتيجي هائل... "رغبات ترامب" تقلق العالم!
مواضيع ذات صلة