النخب الفلسطينية لديها كل الحق عندما تنقد بمرارة الموقف الغربي بشكل عام تجاه قضيتها، وهي القضية التي لا يوجد أكثر منها عدالة في تاريخ العالم المعاصر. تنقد تلك النخب محقة ذلك الموقف من معظم الدول الغربية على أنها تصطف مع المعتدي وتتجاهل أفعاله في الإبادة الجماعية، والاعتداء هنا فاق كل تصور إنساني؛ فما يحدث في غزة هو محو لشعب وتفجير للأرض، استمرت ممارسته حتى الآن لأكثر من عام، وهي تنتقل من مرحلة تصفية، إلى مرحلة أفظع في التجويع والمطاردة وإزهاق الأرواح وحرمان الإنسان من أبسط حقوقه، وهي أن ينام تحت سقف يحمى أطفاله، بل وطحنت الأجساد تحت أكوام الكونكريت، وأصوات أولئك البشر تستغيث ولا مغيث، على الرغم مما تعلنه تلك الحكومات من حرصها على حقوق الإنسان وتقرير المصير للشعوب، والذي تصدح به في كل حين على المنابر الدولية. لا بدّ أيضاً من القول إن هناك حكومات غربية بدأت تستنكر تلك الأفعال، كما بدأت شرائح شعبية في الغرب تقوم بذلك، إلا أن ذلك الاستنكار، إما أصبح معزولاً، أو ربما تلاشى الكثير منه مع الوقت أو حرف عن مقاصده، وأصبحت الحكومات التي صدحت برأيها بالاحتجاج على المجازر تحاصَر سياسياً وأيضاً ديبلوماسياً، بسبب القوة الغامرة التي يمتلكها مناصرو إسرائيل في الإعلام والمحافل الدولية. المراقب يحتار في كيف يمكن تفسير تلك المواقف؟! كيل الاتهامات للحكومات الغربية لا يحقق فهماً لتلك المواقف، فكيف يمكن في عصرنا، عصر الثورة الاتصالية، أن لا يرى الإنسان كل تلك الأعمال الهمجية ضد شعب محاصر، أو لا ترى نخبته أن هذه الأعمال تزيد من كمية الحقد الإنساني على من يقوم به أو يناصره، والنتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك الحقد والمرارة في منطقة جغرافية بأسرها. لا بدّ من الغوص عقلياً في تلك الأسباب، وبعضها معروف، منها التعاطف الأيديولوجي، ومنها المصالح المشتركة، ومنها الكيل بمكيالين مختلفين لما عندهم وعند الآخرين، ومنها، وهو ربما الأهم، عدم تقدير منطقي للموقف الصراعي بأسره لدى قيادات الضحية، إذ إن الحيرة في موقف أهل القضية ومناصريها يكمن في أن اقترابهم منها يتسم بالكثير من العواطف، والقليل من التفكير الواقعي، وقد أقول العلمي، لفهم الظاهرة الاستيطانية، وعوامل نشأتها، وعناصر بقائها، وقدرتها على تحشيد رأي عالمي، وكيفية مواجهتها. الافتراض الأول أنه لو كان هناك رأي عام ضاغط في الدول الغربية المؤثرة في المشهد، لانصاعت في الغالب حكومات تلك الدول إلى تلك التوجهات، وأثرت في موقفها السياسي، إلا أن ذلك ليس هو الواقع. الواقع أن رأياً عاماً قد استقر في ذهن شرائح واسعة منه، أن هناك "إرهاباً" وقع بسبب عملية "طوفان الأقصى"، ولم يتأثر كثيراً بالوحشية المضادة، والإبادة الإنسانية. لقد تبين من تداعيات "طوفان الأقصى"، والذي بني على ردات فعل، لا على حسابات سياسية شبه دقيقة، أنه أنتج موجة "تسونامي" هائلة في المنطقة. لدى حاضنة الطوفان لم ينتج فظائع غزة المستمرة وحسب، ولكنه أيضاً شهد تدميراً غير مسبوق في لبنان، بسبب مرة أخرى، حسابات عاطفية قام بها "حزب الله" تحت شعارات شعبوية غير محسوبة المخاطر، وأيضاً ما تم في سوريا أخيراً من إزاحة نظام متوحش، كان يسمى عصب محور المقاومة. بني في الغالب نظام ما عرف بمحور المقاومة على عدد من الركائز تفتقد أهم عنصر فعّال في فعل المقاومة، وهو أن الحرية أساس المواطنة وأساس المقاومة. لا يمكن مقاومة محتل في غياب الحرية لدى المقاومين؛ لقد ثبت من تاريخ المجتمعات، على الأقل منذ الحرب العالمية الأولى، أن الشعوب الحرة تنتصر على الشعوب المضطَهدة، تلك حقيقة لا تقبل الجدل. الشعوب الحرة تعتمد العلم والتنظيم في إدارة الحياة العامة، والمضطهدة تعتمد القمع والخرافة معاً. تبين مما ظهر من إحدى دول الممانعة وهي سوريا، أن الاضطهاد لم يكن له سقف، ووصل إلى درجة أن كلمة واحدة تأخذ صاحبها خلف الشمس، وينتشر الخوف في هذه المجتمعات، وتتراجع الثقة، وتتحول الهزائم لديها لفظاً إلى انتصارات، فلا يمكن الحديث عن مقاومة عدو عند شعب خائف. هذا ما حدث في لبنان؛ قال أخيراً الأمين العام لـ"حزب الله"، أن اللبنانيين احتضنوا أخوتهم في "بيئة المقاومة" عندما فر أكثر من مليون ونصف من قراهم ومنازلهم، ولكن في السابق لم تحتضن المقاومة أهل لبنان وتتفهم مواقفهم، فأخذتهم بالقوة إلى حرب حتى دون استشارة، على قاعدة حرمان من الحرية واغتيال المعارضين، أفضت إلى إحباط بسبب تغول الدويلة على الدولة الهشة. وتتناقص الحرية في التجمع الفلسطيني إلى درجة الحرمان حتى من الجهر بالرأي، فتبعت بعض الفصائل دولاً شمولية، وأخرى اعتمدت الشعوذة في الاقتراب من القضية، بدلاً من التفكير العلمي المتوازن، فأخذت الأقلية الأغلبية إلى طريق مسدود، وامتنعت كل القوى عن تنظيم انتخابات تتنافس على مبادئ واضحة، أو تقاربت على نهج برنامج وطني، أو حتى استعانت بالعقول الفلسطينية النيرة، وحلت الزبائنية محل الكفاءة. في أجواء كهذه تموت المبادرة، ويختفي الرأي الحصيف، ينتشر الخوف، وتعم الهزائم.
أسى الفلسطينيين!
مواضيع ذات صلة