في خبر لافت أُعلن رسمياً أن العراق يرفض استخدام أراضيه وأجوائه للاعتداء على أيّ دولة. هذا التصريح يحمل وضوحاً وصراحة لا تحتمل التأويل أو التحريف، وهو بمثابة رسالة واضحة لجميع الأطراف الإقليمية والمحلية.
إلا أن هذا الإعلان أثار تساؤلات عديدة، خصوصاً في ظل محاولات البعض تفسيره بطريقة تخدم أجنداتهم. من بين هذه التأويلات، ما يدّعي أن المقصود بهذا القرار هو استهداف إسرائيل في حال قامت بشن هجوم على إيران عبر الأجواء العراقية. لكنّ الملاحظ أن التصريح شمل الأراضي العراقية أيضاً، مما يضع قيوداً واضحة أمام أيّ قوة، سواء إقليمية أو دولية، تفكر في استغلال العراق كنقطة انطلاق لأيّ اعتداء.
من زاوية أخرى، يبدو أن هذا القرار يحمل توجيهاً واضحاً إلى الميليشيات والفصائل المسلحة العاملة داخل العراق، إضافة إلى إيران التي وردت تقارير عن نيتها شن هجمات انطلاقاً من الأراضي العراقية. كما أن الخطاب اليومي لبعض هذه الميليشيات الذي يدعو إلى عمليات عسكرية ضد إسرائيل من داخل العراق يتناقض تماماً مع إعلان الحكومة العراقية.
هذا الوضع يكشف عن ضعف الدولة العراقية أمام هيمنة هذه الجماعات، التي تدير أجنداتها الأيديولوجية بما يخدم مصالحها ومصالح الجهات الخارجية التي تدعمها. فجميعنا يدرك بأن الإطار التنسيقي هو الذراع القوية لإيران في العراق والذي سلم كل إدارة العراق بيد هذه الدولة التي تسعى إلى احتلال العراق بذرائع شتى ومنها القضية الفلسطينية، التي أصبحت أداة للهيمنة والاحتلال، أي هناك نية احتلال بحجة التحرير.
تخيّل لو أن حكومة إقليم كردستان، المعروفة بتوجهها نحو حماية سيادة العراق واستقراره، والتي تستحق أن تكون قمرته القيادية، أعلنت رفضها استخدام الأراضي أو الأجواء العراقية لأيّ هجمات على الدول المجاورة. كيف سيكون رد الفعل؟
من المؤكد أن هذا الإعلان، لو صدر عن الإقليم، سيواجه بردود فعل عنيفة وغير متوازنة. ستُتهم حكومة الإقليم بالخيانة من قبل جهات عديدة، وستتعرض لحملات إعلامية شرسة تستخدم التخوين والسب والشتم كأدوات ضغط. هذا بالإضافة إلى الاستهداف العسكري الذي قد يأتي في شكل غارات بالطائرات المسيّرة أو قصف بالصواريخ، كما شهدنا في مناسبات سابقة.
لكن المفارقة هنا أن موقف الإقليم في هذا السيناريو لن يكون إلا امتداداً لما تبنّاه على مرّ السنوات: الالتزام بسياسة الحياد الإيجابي، وحماية الأراضي العراقية من أن تتحول إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية. ورغم ذلك، غالباً ما يُقابل هذا الموقف بالمزيد من الهجمات السياسية والعسكرية من قبل الأطراف التي ترى في استقرار الإقليم تهديداً لأجنداتها.
ما يجب أن يُدركه الجميع هو أن حكومة إقليم كردستان، في ظل هذه الضغوط، أثبتت مراراً قدرتها على إدارة الأزمات بحكمة، وحماية المصالح العليا للعراق ، رغم كل التحديات. في الواقع، تعكس سياسات الإقليم نموذجاً للإدارة الرشيدة التي تضع مصلحة البلاد فوق أيّ اعتبار آخر.
إن المأزق الذي يعاني منه العراق اليوم ليس مجرد نتيجة للتدخلات الخارجية أو التحديات الإقليمية، بل هو نتاج فشل داخلي في استيعاب التنوع وإدارة الخلافات بشكل بناء. وهنا، يُمكن لحكومة إقليم كردستان أن تكون نموذجاً يُحتذى به. سياسات الإقليم التي توازن بين الحكمة والاستقلالية، والتي تراعي التحديات الإقليمية دون التضحية بسيادة العراق، تقدم دروساً يمكن لبغداد أن تستفيد منها.
على الحكومة العراقية أن تدرك أن مواجهة الميليشيات والفصائل الخارجة عن القانون، وإعادة هيبة الدولة، تتطلبان شجاعة سياسية وإرادة موحدة بين جميع الأطراف. وليس من الحكمة إقصاء الإقليم أو التشكيك في نواياه، بل يجب استثماره كشريك إستراتيجي في بناء عراق قوي ومستقر.
في الختام، العراق يقف اليوم عند مفترق طرق. هل يختار الانجرار وراء صراعات داخلية وإقليمية تزيد من تآكله، أم يسعى لاستعادة مكانته كدولة مستقلة ذات سيادة تُصان فيها الحقوق وتُدار فيها الخلافات بالحكمة؟ الإجابة واضحة، والاختيار يجب أن يبدأ من تعزيز الوحدة الداخلية والاستماع إلى أصوات الحكمة، التي أثبتت أنها رغم التحديات قادرة على تقديم نموذج يُعيد الثقة بمستقبل البلاد.