محمد مفتي
في مشهد يدمي القلوب يكاد يتكرر يومياً تصرخ طفلة لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها عقب تلقيها تهديدات وأوامر من الجيش الإسرائيلي بضرورة إخلاء المنطقة التي تقطن فيها، وإلا فستكون المنطقة بالكامل عرضة لعملية عسكرية لن يتم فيها أدنى مراعاة للظروف الإنسانية الكارثية التي يعيشها سكان القطاع منذ أكثر من عام، تصرخ الطفلة «فين بدنا نروح؟!» في إشارة إلى استمرار عملية النزوح من منطقة لمنطقة أخرى داخل قطاع غزة دون أن يبدو لهذا النزوح من نهاية، فسكان القطاع المنكوبون يفرون من منطقة لأخرى تحت وابل من القصف الجوي والبري المكثف على مدار الساعة، وذلك داخل كافة أجزاء ومناطق القطاع.
من المؤكد أن هذه الصرخة البريئة شأنها شأن غيرها من آلاف الصرخات المدوية لسكان قطاع غزة من المدنيين، من طالبي الإغاثة والعون، ليس من المجتمع العربي فحسب بل ومن المجتمع الدولي كافة، والذي ظل عاجزاً حتى هذه اللحظة عن تقديم المساعدة للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة والضفة، لقد بات العالم بسبب الحرب الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة أسيراً عاجزاً عن وقف هذه المجازر المتكررة، فما يراه العالم من خلال بعض اللقطات المنتشرة هنا وهناك لا يعبر إلا عن جانب محدود ومجتزأ لما يعانيه الشعب الفلسطيني الأعزل من مآسٍ يومية متكررة.
من الواضح تماماً أن الحكومة الإسرائيلية لا تلقي بالاً بكل هذا الدمار والوحشية المفرطة التي تستخدمها بغية القضاء على حماس وكأن الأمر لا يعنيها، فعلى الرغم من الرقم الهائل لعدد الضحايا من الشعب الفلسطيني سواء كانوا شهداء أو مصابين، وعلى الرغم من تدمير شبه كامل للبنية التحتية والمرافق لقطاع غزة، مع توقف الحياة اليومية بكافة صورها وأشكالها من تعليم وصحة وتفكيك كامل لجميع مقومات الحياة في القطاع، إلا أنها لا ولم تتوقف عن التهديد والوعيد بمزيد من التدمير من أجل تحقيق أهدافها، ومن الواضح أن الحكومة الإسرائيلية اتخذت قراراً - غير معلن عنه بالطبع- بالقضاء على أكبر عدد من الشعب الفلسطيني، سواء من خلال قتلهم بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال تركهم فريسة للجوع والمرض، ومع الفشل الذريع المواكب لكل تحرك تقوم به إسرائيل يبدو وكأن هذه الحرب لا نهاية لها.
يقول السياسي الفرنسي جورج كليمنصو «الحرب أمر مهم لهذا لا يجب تركها للعسكريين»، ومن المؤكد أن هذه المقولة من الأهمية بمكان للتمعن فيها، فبعض العسكريين وخاصة من تدرب منهم على الوحشية المفرطة فحسب دون فهم عميق منهم لطبيعة الأداء العسكري ككل لا يجيد سوى لغة القتل، ومن المؤسف أن تكون عقيدة الجيش الإسرائيلي مبنية -منذ تأسيسه- على أنه لا عدو لإسرائيل سوى العرب، وأن ترهيب العرب أكثر تأثيراً حتى من مجرد قتلهم، لأن الترهيب سياسة استراتيجية بعيدة المدى يتم خلالها توظيف القتلى ليكونوا عبرة لمن تبقى على قيد الحياة، والمتتبع لجميع الحروب التي خاضتها إسرائيل منذ تأسيسها سيجدها قد ارتكبت خلالها من المجازر والمذابح ما يعجز القلم عن وصفه.
لا شك في أن ما قامت وتقوم به إسرائيل لم تكن لتجرؤ على فعله لولا تمتعها بدعم غير منقطع النظير من الولايات المتحدة، ليس لأن الأخيرة مقتنعة بالسياسات الإسرائيلية؛ بل لأن وجود إسرائيل في المنطقة جوهري تماماً في سياق سياستها الخارجية في منطقة الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة لن تجد حليفاً موثوقاً به في المنطقة أكثر من إسرائيل، ولذلك فوجود الدولة العبرية يضمن لها تواجداً مستمراً وحليفاً موالياً يحقق لها أهدافها الاستراتيجية التي تخطط لها شرقاً أو غرباً.
يتضح لأي متابع للشأن السياسي العالمي حرص الولايات المتحدة على اتخاذ حلفاء استراتيجيين لها في المناطق التي تتميز بأهمية وثقل استراتيجي لتتمكن من إكمال سيطرتها السياسية والاقتصادية على كافة محاور العالم، فتايوان على سبيل المثال هي حليف استراتيجي مقرب من الولايات المتحدة يضمن لها نفوذها في منطقة الشرق الأقصى، وعلى الرغم من اختلاف السياسات الأمريكية باختلاف توجهات رؤسائها إلا أن نظام تايوان يعد خطاً أحمر لا يتم السماح لأي دولة بتهديده، ولذلك فإن فهم العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وسبب دعم الأولى للأخيرة يبدأ من فهم السياسة الاستراتيجية الدولية للولايات المتحدة.