تجري يوم الثلاثاء المقبل في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي يصعب حتى الآن التكهّن بهوية الفائز فيها. ذلك أن كتلتين تتواجهان وتتساويان حجماً وتعبئة: كتلة قوامها الأساسي ملوّنون وسود من شرائح اجتماعية مختلفة وبيض مدينيّون متعلّمون ونساء يدافعن عن حقّ الإجهاض، وهم يشكّلون أكثريات سكّانية في الساحلين الغربي والشرقي الشمالي وفي معظم المدن الأمريكية الكبرى والمتوسّطة، وهؤلاء يدعمون مرشّحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس؛ وكتلة من البيض منخفضي المستوى التعليمي، ومن أثرياء داعمين لتخفيض الضرائب والانفاق الاجتماعي، ومن المحافظين المسيحيين المعادين للإجهاض وللخطاب النسوي، وهؤلاء أكثريات سكّانية نسبية في الولايات الجنوبية وفي ولايات الوسط وبعض ولايات الشمال حيث تتّسع الشرائح الريفية أو العمّالية الصناعية الدنيا التي عصفت بها التحوّلات الاقتصادية في العقود الماضية، وهم يصطفّون خلف دونالد ترامب الذي سيطر على الحزب الجمهوري وفرض رعباً على معارضيه فيه.
وتبرز بين هاتين الكتلتين كتلة ثالثة، من خليط سكّاني طبقي وجيليّ ومناطقي وجنسيّ ومن أصول مختلفة، متردّدة وغير متجانسة، وتحاول كل حملة اجتذاب أكبر عدد من مكوّناتها إليها.
ولأن الانتخابات الرئاسية تقوم وفق نظام انتخابي يُنتج مجمّعاً من الناخبين الكبار بحسب كوتا لكلّ ولاية أمريكية، وينتخب المجمّع المذكور الرئيس، فإن المعركة صارت اليوم محصورة تقريباً في سبع ولايات «متأرجحة»، إذ أن باقي الولايات تبدو محسومة النتائج مسبقاً بسبب نسيجها السكاني وتاريخها الانتخابي. والولايات السبع هذه هي بنسلفينيا وميشيغان وكارولَينا الشمالية وجورجيا وأريزونا ونيفادا وويسكنسون، وتبذل حملتا هاريس وترامب جهوداً استثنائية فيها، لما لكلّ منها من تأثير على النتائج النهائية.
وتبرز في ميشيغان أدوار الناخبين الأمريكيين ذوي الأصول العربية، التي سعى كل طرف إلى مخاطبتهم واستمالتهم، والمنقسمين لأسباب عديدة. فبينهم من قرّر التصويت لترامب، وهم أقلّية، وبينهم من سيصوّت لهاريس وهم كثرة، وبينهم من سيقاطع أو سيصوّت لمرشحة حزب الخضر جيل ستاين بسبب مواقفها الداعمة للفلسطينيين (علماً أن مواقفها الأخرى شديدة الالتباس تجاه روسيا ونظريات المؤامرة ونظام الأسد وعدد من الملفّات الصراعية المفتوحة). والأخيرون أي المقاطعون والمصوّتون لستاين كثرةٌ أيضاً، وثمة من يعتبر أن عددهم قد يكفي لخسارة هاريس ميشيغان، وربما خسارتها الانتخابات برمّتها إن لم تربح في بنسلفينيا وكارولينا الشمالية وويسكونسون.
على أن ما يعنينا هنا، وفي ما يخصّ قضايا الشرق الأوسط، هو البحث في جدوى معاقبة هاريس إذا كان الأمر سيمنح ترامب حظوظاً أوفر للفوز.
والحقّ أن هناك الكثير ممّا يبرّر الغضب على هاريس ويدعو إلى محاسبة الديمقراطيين عامة وإدارة جو بايدن بخاصة، التي ساهمت في تمويل حرب الإبادة الإسرائيلية ضد فلسطينيي غزة، عبر إمداد تل أبيب بـ18 مليار دولار في عام واحد وبآلاف الأطنان من الذخائر التي لولاها لما استمرّت الحرب بنفس الوتيرة، إضافة إلى استخدامها دفاعاتها الجوية للذود عن إسرائيل ولجوئها إلى حق النقض مرّتين في مجلس الأمن منعاً لقرارات تدينها أو تطلب منها وقف إطلاق النار.
لكن المشكلة تكمن في أن ترامب قد يتخطّى إدارة بايدن والديمقراطيين سوءاً تجاه الفلسطينيين، ولديه نزعات داخلية وفي السياسة الخارجية ستنعكس سلباً عليهم أيضاً في المستقبل المنظور. وهو يحمل فوق ذلك خطاباً عنصرياً ورهانات لا يمكن التقليل من أثرها سياسياً على قضايا عديدة، تشمل فلسطين وتتخطاها.
ولعلّ إيراداً سريعاً لأربع مسائل يشرح ما نذهب إليه.
ففي الداخل الأمريكي، يتعهّد ترامب بطرد مهاجرين وبوقف وصول آخرين، ويستخدم مصطلحات بذيئة وعنصرية تجاههم. وهو سبق أن هدّد «الأجانب» من بين الطلاب الجامعيين المتظاهرين دعماً لفلسطين بترحيلهم من أمريكا، وشتم في أكثر من مناسبة هيئات حقوقية وصحافية عدّها «يسارية» لإثارتها قضايا حقوق الإنسان ودفاعها عن الحرّيات العامة والخاصة. وما من شكّ في أن إشاعة مناخ عنصري وقمع التحرّكات الطلابية والحدّ من بعض الحرّيات ستكون له آثار سلبية على المتضامنين مع فلسطين ومع قضايا أخرى، وسيعزّز من خطاب إسلاموفوبي ومُعاد للأجانب تستفيد منه إسرائيل وحلفاؤها.
وفي «الشرق الأوسط»، لا يؤيّد ترامب حتى لفظياً قيام دولة فلسطينية. وهو يعدّ أن التطبيع السعودي مع إسرائيل، بعد التطبيعين البحريني والإماراتي، كفيل بدفع الخليجيين إلى مشاريع اقتصادية إقليمية كبرى تجعل من الإسرائيليين شركاء أساسيين فيها، وتُقدّم للفلسطينيين في غزة مساعدات لإعادة أعمار مشروطة بإدارة سياسية وأمنية إقليمية. وليس مستبعداً سعي إسرائيل في ظلّ ترامب لتسريع خطوات ضمّ الضفة الغربية (أولوية حكومتها الحالية المطلقة) أو أجزاء منها بعد توسيع المستوطنات وتصويت الكنيست مؤخراً على قانون يرفض قيام دولة فلسطينية. وهذا قد يعني جولات عنف جديدة ومجازر إضافية بحجة القضاء على «الإرهاب» وتحضير المنطقة «لاستقرار وتنمية» وما إلى ذلك من شعارات سبق لولاية ترامب السابقة أن طرحتها عبر موفدها إلى المنطقة، صهر ترامب، رجل الأعمال جاريد كوشنر.
كما أن الهجوم الإسرائيلي المحتمل على البرنامج النووي الإيراني الذي يأمل نتنياهو بموافقة ترامب عليه يعني تمديد أمد الحرب اليوم في المنطقة بأكملها وشحذ المزيد من الأسلحة والمساعدات الأمريكية وتطويل عمر المواجهات على جميع الجبهات، بما يخدم الأجندة الإسرائيلية.
وهذا كلّه ليس مضموناً لنتنياهو وحكومته إن فازت هاريس لأسباب تخصّ حساباتها وتوازنات حزبها الجديدة، بما فيها التي دعمتها بديلاً عن بايدن، بالرغم ممّا جرى خلال عامٍ انقضى من تواطؤ واشنطن مع تل أبيب.
يضاف إلى ذلك دولياً، أن تقليص ترامب دعم أمريكا لأوكرانيا وترك أوروبا وحيدة تواجه روسيا إن لم تقبل كييف بالتنازل عن جزيرة القرم وعن منطقة الدونباس مقابل إنهاء موسكو لحربها (على ما يروّج المقرّبون لترامب) ستكون له عواقب وخيمة، وليس مستبعداً أن تشمل تبعاته مقايضات تُضعف ما تبقى من قانون دولي لا يخفي ترامب أصلاً احتقاره له، وتكرّس مبدأ القوّة في أوروبا ذاتها، في ما يُشبه التكريس الإسرائيلي له في الأراضي المحتلة.
وهذا لا يعني أن حرب أوكرانيا يجب أن تستمرّ، لكن وقفها يفترض معادلات وشروطاً ومفاوضات وتعويضات لا يبدو ترامب آبهاً بها.
الأخطر مما سبق ذكره هو ما قد يؤّدي إليه انتخاب ترامب في أمريكا من دعم لليمين المتطرّف وتياراته حول العالم، من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا وصولاً إلى الهند، وما سيسبّبه الأمر من انفلات مضاعف للخطاب العنصري وللممارسات التمييزية في أكثر من قارة، من دون نسيان أن اليمين المتطرّف في كل البلاد اليوم هو الأكثر دعماً لإسرائيل ولجرائمها، وهو المُفتتِن بفلسفة العنف والتفوّق العرقي على حساب فلسفة القانون والمواثيق الحقوقية وما تبقى من مصداقية المؤسسات الدولية.
وهذا كلّه إن صحّ يعني أن المخاطر التي يمكن لإدارة ترامب أن تتسبّب بها تفوق ما يمكن لهاريس التسبّب به، وأن سوء السياسات ضمن إدارة بايدن تجاه فلسطين وتواطؤه مع إسرائيل قد يصبح أشدّ قسوة وأوسع ضرراً إن دخل ترامب إلى البيت الأبيض.
الخيار يبدو إذن في انتخابات عالية التنافسية بين السيّء والأسوأ. وهذا شأن بات دارجاً في معظم الانتخابات الديمقراطية والأقل ديمقراطية. وهو في ذاته دليل تدهور للحياة السياسية ولأحوال العالم. لكن مواجهة ذلك الصعبة لن تتحسّن شروطُها في أي حال حين يُنتخب الأسوأ…