ما الذي يمكن أن يحدث إذا نسي القلم شيئاً، كان ينوي قوله في موضوع الهويّة؟ منذ القديم قيل: «وما سُمّيَ الإنسان إلا لنسيهِ.. ولا القلب إلا أنه يتقلّبُ». ذلك ليس حتى قطرةً في بحر، فليس غريباً أن ترى أمّةً نسيت هويتها، أو نسيت نفسها، بل ونسيت حتى ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وإلا فما الذي جعل هارون الرشيد، ينزل من شرفته التي كان يقول منها للسحابة: «أمطري حيث شئت فخراجك لي»، ويذهب على قدميه إلى «سوق مريدي» ليقدّم النفط مقابل الغذاء؟ قال القلم: رأيتُ في ما ترى الأمّة النائمة، سيّدةً عربيةً تتوهج في محيّاها الشهامة والإباء والكبرياء، وهي تصيح بابنها: «ما هكذا يكون من كنت أنا أمّهُ». سألتُ طيفها: من هذه القامة والهامة؟ همس في سمع وجداني: أمَا عرفتها؟ إنها عائشة الحرّة أمّ أبي عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة، ذلك الذي سلّم المدينة للملك فرديناند الإسباني وزوجته إيزابيلا، وغادرها باكياً، فقالت له أمّه: «ابكِ مثل النساء مُلْكاً مُضاعاً.. لم تحافظ عليه مثل الرجالِ».
فجأةً زلزلت الأرض واهتزت الأرجاء بصوتها هادرةً: إلى متى سأظل أردّد هذا البيت؟ قلت للقلم: أفِقْ خفيف الظل فقد توسط العمود. هات قل لي: ما الذي نسيتَ ذكره في شؤون الهوية. قال: هي في الحقيقة كلمة أبوح بها على استحياء، لأنها لا تخلو من أذىً معنوي. مشكلة الأمّة تتمثل في عدم فهم الهوية على حقيقتها وبمجموع مكوّناتها ومتطلباتها. المسألة بسيطة: تشتت الأمّة دليل قاطع على مفهومها التجزيئي للهوية. تخيّل جسماً يرى العلاقات بين أعضائه شؤون تشريفات وبروتوكولات وتوصيات، وأن من الطبيعي أن تُقطع الصلات وأن تُستأنف، وتبقى الأمور ماشية.
العجائب غرائب مدوّخة، ولكن يجب أن يوقن العرب أن الظروف الحالكة الراهنة لا مثيل لها في كونها مبعث أمل نادر. هل تذكر ذلك التدرّج النزولي من الفعل إلى أضعف الإيمان؟ كل المؤشرات تبشر بالتدرج التفاؤلي، من أسوأ مشاهد الجمود والخمود واللامبالاة، إلى الفعل. لا يمكن لعربي عاقل أن يتصور أن أربعمئة مليون عربي قد باتوا هباءً منثوراً. ما أكثر الذين لا يستطيعون تخيّل الفخّار، الذي حطمه الثور الهائج، ينهض كالفينيق، كالتمثال الفولاذي لتكون له الكلمة التاريخية.
لزوم ما يلزم: النتيجة اليقينيّة: لا تقل إن هذا الكلام أساطير، فأنت حينئذ تجهل أن السهام الموجهة إلى الأمّة إنما هي جعبة أساطير.