: آخر تحديث

التريث في وجهة العاصفة!

12
12
13

د. محمد النغيمش

في ظلمة الليل الدامس، تتساءل السفن المتقابلة أيها يجدر بها العبور أولاً. لذلك، وضعت الملاحة قواعد المرور البحري، مُلزمةً ميمنة السفينة بوضع وميضٍ أخضر، وميسرتها وميضاً أحمر. فإذا ما لمح القبطان الضوء الأخضر، كانت تلك إشارةً له بالمرور الآمن، أما الوهج الأحمر فدعوة للتوقف حتى تعبر السفينة المقابلة. وفي عالم الطائرات، يُطبَّق المبدأ ذاته لـ"حق المرور". هي، ببساطة، دعوة للتريث قبل قرار العبور. كثير من قراراتنا تتطلب تريثاً. ولذلك يختلف "التريث" قليلاً عن "التأني"، إذ إن الأول فيه شيء من الانتظار المؤقت يستدعيه الموقف. أما التأني فمرتبط بالأداء نفسه، وهو تعمد الهدوء والبطء في التنفيذ. وعليه يتريث المرء قبل القرار وقد يتأنى في مراحل تطبيقه. ولهذا قيل: "في العجلة الندامة وفي التأني السلامة". ولنتذكر أن من التصرفات العجولة ما يفسد "الطبخة". من مؤشرات الحاجة إلى التريث، حجم التأثير ودرجة عدم اليقين. فهناك قرارات مرتبطة بمصائر البلاد والعباد لا يجدر أن "تُسلَق سَلقاً". ولذلك لا يخرج القضاة من غرفة المداولة إلا بعد فترة من التريث. وبعض القرارات مثل "القفز إلى المجهول" لأنها لم تبن على أرضية صلبة من البحث والتحري والتمحيص. هناك من يتشبث بأهداب التريث هروباً من جرأة اتخاذ القرار. هؤلاء سرعان ما يُكتشف أمرهم. وهم على الأرجح ليسوا أهلاً لقيادة دفة السفينة. ومن مؤشرات الحاجة للتريث، درجة التعقيد والمخاطر المحدقة بالقرار كالإشارات التحذيرية في مثال "حق العبور" في الملاحة. وثمة أيضاً دواعٍ "قانونية" ومدى "تأثير القرار على أطرافه"، فضلاً عن ما إذا كان متخذ القرار يواجه حالة من "التغييرات الجذرية" التي تعيشها البلاد أو المنظمة. ليس كل شيء يتطلب تريثاً، لكن لأن كثيراً من قراراتنا مرتبطة بأمور روتينية وبديهية... وعمق التجربة. في حين أن هناك قرارات تفتقر إلى "خيار التراجع"، على غرار الزواج الكاثوليكي، لا طلاق فيه إلا في أضيق الحدود. وحينما يشعر الإنسان بوخز الضمير أو حاجة لاستشارة، فذلك مؤشر إلى ضرورة التريث، قبل الإقدام على قرار مصيري. منها مثلاً ما هو متعلق بمستقبلنا، وقيمنا، ومبادئنا. وحتى البلدان تتريث أحياناً، مثلما فعلت الولايات المتحدة الأميركية في تأخير خوضها الحرب العالمية الثانية، حتى "بلغ السيل الزبى" بُعيد الهجوم الياباني الكاسح على سواحل بيرل هاربر. والاتحاد الأوروبي نفسه، ولد من رحم التريث عبر سنوات من التفاوض وبناء الشركات الاقتصادية والسياسية المثمرة حتى صار مؤهلاً لتوسيع نطاق التعاون. هنا تجلّى التريث كخيار، بعيداً عن عواقب التسرّع. ولذلك قيل "مَن أسرَعَ كَثُرَ عَثاره".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد