: آخر تحديث

"غزو البُلهاء" لعقول الغافلين

11
11
11

حسن إسميك

لنتخيل معاً الموقف الآتي:

بعد خلاف بسيط عابر بين زوجين، لا يعدو كونه جزءاً من طبيعة الحياة الزوجية يختبره جميع من جمعهم هذا الرباط المقدس، جلس الزوج يتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ليجد مقطع فيديو قصيراً يتحدث عن "نكد النساء" وكثرة متطلباتهن وإلحاحهن؛ أو ما يُعرف عاميةً بـ "النق"، وجلست الزوجة تشاهد فيديو آخر يظهر فيه شاب حسنُ الهيئة يقول إنه "في حال وجود مشكلة مع زوجك، فهذا يعني بأنه سيئ أو خائن، أو ربما أكثر من ذلك، ولا حلَّ معه سوى كذا أو كذا"؛ أي أنه يقدّم –ودون أن يطلب منه أحد– نصيحة في الحياة الزوجية، ويعطي بـ "ثقة العارف" طُرقاً للتعامل مع المشكلات، ويؤكد أن هناك المزيد من الفوائد سيقدمها لك، وما عليك إلا أن تدفع بعض المال مقابل جلسات "الاستشارة النفسية"!

كيف سيكون رد فعل أيّ من الزوجين؟

بطبيعة الحال، سيختلف التفاعل مع هكذا محتوى باختلاف مستوى وعي المتلقي وإدراكه! وقد تلعب الحالة النفسية السيئة أو وجود بعض الخلافات بين الزوجين دوراً دافعاً باتجاه تصديق صاحب الفيديو، ومن ثمّ التصرف على أساس تلك النصيحة، وتتفاقم المشكلة بدل أن تُحلّ، وقد تكون النتائج أكثر كارثية، فتهدد استقرار الأسرة أو تهدمه بشكل كامل.

أسوق هذا المثال هنا للحديث عن ظاهرة تتفشى يوماً بعد يوم في مجتمعاتنا بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وهي قدرة كل من هبّ ودبّ على تصوير مثل تلك المقاطع وتحميلها على مختلف المنصات ونشرها في كل مكان، دون أن يمتلك صاحبها أدنى مؤهل علمي أو أكاديمي يسمح له بالتعاطي في أمرٍ بالغ الدقة كالحالة النفسية للناس وعلاقاتهم الاجتماعية، والأسرية بخاصة. كذلك، قد لا تكون "نصائحه" مبنيّة حتى على تجربة شخصية (رغم خطورة هذه أيضاً)، بل هي مجرد رغبة من صانع المحتوى في اكتساب الشهرة وحصد التفاعلات، وتحقيق الأرباح عبر محتوى يلقى رواجاً بين الأكثرية الباحثة عن الترفيه أو النصيحة المجانية، أو عن أشياء تملأ بها وقتها الضائع، فنكون بذلك انتقلنا من المحتوى غير الهادف أو التافه إلى حالة أكثر خطورة وهي "المحتوى الهدّام".

لا يقتصر محتوى مثل هذه الفيديوهات على قصص المشكلات الزوجية، بل يتعداها إلى مختلف الأوضاع الاجتماعية والنفسية والتي تمسّ غرائز الإنسان ومشاعره وعواطفه وحالته المادية ووضعه الاجتماعي، مثل الحديث عن النجاح السريع والثروة السريعة وحب الذات.. وإلى آخره من المواضيع التي تثير اهتمام كثيرين، وتستهدف مَواطن ضعفهم، لا سيما في المجتمعات المتخلّفة، والتي تنخفض فيها نسبة الاهتمام بالعلم ودرجة الوعي، ويرتفع بالمقابل الجهل والكسل واليأس والبطالة، وبالتالي الرغبة في الحصول على نتائج دون جهد!

إذن، فالمسؤولية عن انتشار مثل هذا المحتوى يتقاسمها الطرفان: المُرسل والمتلقّي، إذ يقدّم المُرسل هنا نفسه كـ "صانع محتوى" أو "مؤثر"، أما مدى دقة ذلك المحتوى وصلاحيته وصحته فمسألة غير مهمة لدى شريحة واسعة من هذه الفئة أو متابعيهم. وبصورة يومية، ثمة آلاف من الجهلة يُغرقون الفضاء الإلكتروني العربي بعلومهم الزائفة وحماقاتهم المُضللة، مستغلين إدمان الناس على مواقع التواصل، وانقيادهم الأعمى لسلطة المشاهير والمؤثرين.

تقع الطامّة الكبرى في تحوّل صناعة هذا المحتوى إلى سبيل للتربّح؛ يتاجر أصحابه بمعاناة الناس النفسية ومشكلاتهم، متظاهرين بأنهم خبراء في حل تلك المشكلات، ومستغلين عدم قدرة فئة واسعة الحصول على استشارات نفسية حقيقية؛ إما لضعف الحالة المادية، أو خجلاً وخوفاً من الوصمة الاجتماعية، فتلجأ هذه الفئة لهؤلاء "المدربين" أو "المستشارين النفسيين" للاستماع لنصائح غير متخصصة بأكثر الطرق سهولة وأقلّها تكلفة: الشاشة التي باتت مرافقة للجميع كباراً وصغاراً، ومتاحة في كل وقت ومكان. ويقع كثيرون في شراك هذا الخداع أو المحتوى المضلل دون التفكير بالعواقب أو محاولة التأكد من أهلية صانع المحتوى.

كالنار في الهشيم!

لماذا ينتشر مثل هذا المحتوى المضلل بصورة سريعة وينال تفاعلاً هائلاً، في حين لا يحظى المحتوى الهادف بمثل هذه الشعبية وسرعة الانتشار؟ يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي التي تعمل بطريقة عرض فيديوهات أو منشورات مشابهة للفيديو الذي يتابعه أيٌّ منا، أي أنّ اهتمامك بمحتوى ما يجعل فيسبوك أو إكس أو تيك توك وغيرها يضع في طريقك كل ما يشبه ذاك المحتوى من صور ومنشورات، وتبدأ بالتأثير على عقلك وتفكيرك دون شعور منك. هذا إلى جانب أن سهولة صنع ذلك المحتوى وشعبيته تشجّع كثيرين لإنتاج المزيد منه: فيديو لا يحتاج معدات وتكاليف كبيرة، قصيرٌ لا يستلزم جهداً ولا رقيباً على المحتوى، فبإمكان أيّ أحد أن يقول أي شيء، يجمع المتابعين ويحصّل الأرباح!

وهكذا، تغزو مثل هذه المحتويات بشخوصها مواقع التواصل الاجتماعي، وتبثّ سمومها طوال الوقت في عقول الصغار والكبار.

لا أحد يُنكر أن هناك محتوى هادفاً يوجد بالفعل على السوشال ميديا العربية، وأن لهذه المنصات جانباً إيجابياً لا يمكن إغفاله، وأن عدداً لا بأس به من صنّاع المحتوى يتمتعون فعلاً بالقدرة والتأهيل المناسبَين، ويبذلون جهوداً حقيقية لإيصال معلومات صحيحة للمتابعين، ولكن لا يحظى هؤلاء سوى بقدرٍ قليل من المتابعة مقارنةً بالآخرين "البُلهاء"، لأن الناس ينجذبون للسهولة وينبذون ما قد يحتاج جهداً للفهم، والأسوأ من ذلك أن كثيراً من الناس باتوا يتعاملون مع تفاهات السوشال ميديا وكأنها وحيٌ مُنزَل! يصدقون الأخبار والصور والفيديوهات وكلام بعض المؤثرين فقط لأن أشكالهم جميلة أو يمتلكون جاذبية معينة، ولا ينتبهون إلى أنهم يتعرضون لمختلف أنواع المحتويات الرديئة، لا يقف حدّ الضرر عند التأثر بها، بل يتعداه إلى إضاعة الوقت الذي يحتاجه الإنسان للتعلم أو العمل أو البحث والإبداع أو فعل أي شيء مفيد فعلاً -ولو كان النوم لساعات كافية، وبخاصة لدى فئة الشباب وصغار السن.

قالت العرب يوماً: "ما أفسَدَ الدنيا والدين إلا أربعة: نصف متكلم، ونصف فقيه، ونصف لغوي، ونصف طبيب"، واليوم، نجد جميع هؤلاء وقد احتلوا مواقع التواصل الاجتماعي ليقدموا للناس "نصف معرفة" أو "معرفة مشوّهة"، وكثير منهم بات على قناعة بأنه عالِم أو متخصص بالفعل؛ مؤهل لتقديم المعلومات وإقناع الناس بها! يسيطر عليه "وهم المعرفة" الذي هو أخطر من الجهل -حسب تعبير العالم البريطاني ستيفن هوكينغ.

هل ينفع التحذير يا تُرى؟

مهما ارتفعت أصوات التحذير من أضرار المحتوى الرقمي التافه على وسائل التواصل، فإنها لن تفيد في الحدّ من ضرره طالما أن البدائل الحقيقية غير موجودة، إذ ما زال صانعو المحتوى العربي من الجهلة يتزايدون يوماً بعد آخر، ويتسابقون في استعراض جهلهم عبر طرح الأفكار الغربية حول أشدّ الموضوعات حساسية وخطورة، فبعضهم يقدّم نفسه مرشداً للعلاقة الجنسية بين الأزواج، وبعضهم الآخر يدعوك لتعلُّم الحيل النفسية لتسيطر بها على من حولك، وفريق ثالث يستعرض أسلوب حياته المرفهة ويدّعي الثراء الفاحش ليُوهم الآخرين أن الحصول على الأموال سهل، وأنْ لا شيء يستحق الجهد والعناء. ينجح صانع المحتوى التافه في إيصال رسالته لأنه يتعمّد العزف على وتر إثارة غرائز النفس البشرية وشهواتها، وهو لا يبالي بإثارة إحباط المتابعين والتسبب بشقائهم ونقمتهم على الحياة التي يعيشونها.

والمؤسف أن "صنَّاع التفاهة" هؤلاء أصبحوا "قدوة" للأجيال الصاعدة، في نمط حياتهم ولباسهم وأفكارهم، ما يُسهم ويمعن في تراجع دور الأهل والجهات التعليمية، بل على العكس، نجد أن المعلم -مثلاً- فَقَدَ مكانته وأصبح مثاراً للسخرية في أماكن كثيرة، وغابت البرامج التربوية الهادفة عن المنصات ووسائل الإعلام أمام تغوّل المحتوى الرديء الذي يُسهم في صنع شخصيات لامبالية ساخرة وسطحية لا تفكر بمستقبلها أو مستقبل بلدانها، معتادة على التذمّر والشكوى والاستسلام واللجوء إلى الحلول السريعة السهلة.

قبل أكثر من 30 عاماً، ظهر في بعض البلدان العربية ما كان يسمى بالخط الأحمر أو الساخن، والذي أتاح لأصحاب المشاكل النفسية التواصل من خلال الهاتف مع "خبراء أو متخصصين"، سوّقوا لأنفسهم بنشر أرقامهم عبر بعض وسائل الإعلام أو في الشوارع حتى، وقد نجم عن هذه الاستشارات مشكلات كثيرة؛ منها ما نتج عن عدم أهلية الشخص الذي يقدّم نفسه كمستشار، ومنها ما يتعلق باستغلال مادي تعرّض له المرضى من قبل هؤلاء المتخصصين المزعومين، ومن هنا بدأ اهتمام الدول والحكومات بهذه الظاهرة ومحاولة الحدّ منها، وقد كان ذلك ممكناً بالفعل حينها، إذ إن عددهم كان محدوداً، ومن الممكن الوصول إليهم بسهولة، أما اليوم، فمن يستطيع ضبط الفضاء الرقمي الواسع وملاحقة أصحاب المحتوى الرديء؟

يتصدّر "تيك توك" المنصات التي تقدم محتوى غير مفيد، وذلك نظراً للمقابل المادي العالي الذي يحصل عليه أصحاب المحتوى، وقلة الضوابط على ما يتم نشره، إذ وصلت الأمور حدّ نشر محتويات تسوّل غير مباشر أو الترويج للممنوعات والأفعال اللاأخلاقية بكافة صورها. وبحسب تقرير لمجلة فوربس، فقد وصل عدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي عام 2023 إلى رقم يُقدّر بنحو 4.9 مليار إنسان، ومن المتوقع أن يقفز هذا الرقم إلى ما يقرب من 5.85 مليار مستخدم بحلول عام 2027، وقد حقق تيك توك وحده إيرادات بقيمة 350 مليون دولار في الربع الرابع من 2022 متفوقاً على بقية المنصات. معنى ذلك أن المحتوى الرديء، وبالأرقام، هو الأكثر انتشاراً.

كما تُظهر الإحصائيات أن موجة المحتوى التافه وغير الهادف اتسعت خلال أزمة كورونا، حيث كان الناس أكثر ميلاً للترويح عن أنفسهم وهم جالسون بين جدران منازلهم طوال اليوم تقريباً، ومع انتهاء الجائحة، كان مستوى متابعة مثل ذلك المحتوى قد وصل نقطة خطرة ولم يتراجع، حيث لاحظ صانعوه حجم الإقبال عليه، فأنتجوا المزيد وأغرقوا مواقع التواصل الاجتماعي به، فارتفعت شهرتهم وأرباحهم، فلماذا سيتخلون عنه إذن؟

هل صرنا محكومين بالتفاهة؟

لن يتخلى هؤلاء عن مكاسب الشهرة والأرباح السهلة السريعة، وسيستمرون بضخّ علومهم الزائفة بكل أشكالها، لذلك، فإن مكافحة المحتوى الرديء تصبح مسؤولية الجميع، المهمة الأكبر تقع على عاتق الأسرة التي تتوجب عليها مراقبة ما يتابعه أبناؤها وتأثير ذلك في سلوكياتهم وحياتهم، والتواجد بصورة أكبر معهم بالطريقة التي تحميهم، والأهم من ذلك، أن يكون الأهل أنفسهم قدوة جيدة في هذا المجال، فجزء من المصيبة التي تحيط بنا يتعلق بكون كثير من الآباء والأمهات هم أنفسهم أصبحوا من مدمني تلك المواقع ويتأثرون بها، فالأسرة هي الكيان المُستهدف بالدرجة الأولى، وانعكاس المحتوى السيئ الذي يغزو الشاشات يتبدّى بصورة جليّة في علاقة الشخص بالمحيطين به بالدرجة الأولى: الزوج والزوجة والأخوة والأبناء..

ولأن مجتمعاتنا العربية لا تزال هشة نتيجة عوامل متداخلة من انتشار الجهل والفقر وعدم الاهتمام باكتساب العلوم والمعارف، إلى جانب بعض العادات والتقاليد التي لا تزال تحكم رقاب الأسر مثل منع تعليم الفتيات وغيرها، كل تلك العوامل تجعل من المتلقي العربي للمحتويات الرديئة المتاحة طوال الوقت أمامه أقل قدرة على تمييز الصحيح من الخاطئ مما يُعرض أمامه، ويجعل تأثير ذلك عليه أكبر وأشدّ خطورة.

كما يتوجب على الحكومات في الوطن العربي مراقبة المحتوى، وفرض قيود على المؤثرين "المزيفين" الذين يبثون من أراضي دولها، والتأكد من صلاحيتهم لنشر المحتويات الطبية والنفسية والاجتماعية وغيرها، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.. وعليها كذلك الانتباه لمواطنيها، فمثل هكذا محتوى خطيرٌ للغاية، وبإمكانه ليس تدمير أسر فقط بل مجتمعات بأكملها، بل ويمكن أن يوظَّف ليؤلب الناس على دولها وحكوماتها. والتغافل عن هذا المحتوى لا يختلف أبداً عن التغافل عن المحتوى التحريضي، لذا يجب على الحكومات سن قوانين تمنع نشر مثل هذا المحتوى، إلا إذا قدم معّده الشهادات والوثائق التي تثبت مؤهلاته وجدارته في مجال تخصصه، وحصوله على موافقة الجهات المختصة. هذا بالإضافة إلى أدوار الحكومات التقليدية في ما يتعلق بضرورة رفع سوية العلم والتعليم بما يسهم في ارتقاء وعي الإنسان وقدرته على التمييز بين المحتوى الجيد والضار، ودعم الأنشطة الاجتماعية والمبادرات التي تصرف أنظار الأجيال الجديدة عن إمضاء وقتهم أمام الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي دون وجود هدف حقيقي يسعون إليه.

بالمحصلة، إنَّ تسليح الإنسان العربي بالعلم والمعرفة، ودفعه ليكون فاعلاً وليس فقط متلقياً متأثراً، هو الوسيلة الأكثر نجاعة للحدّ من مرض العصر المتمثل بالإتجار بروح الإنسان وعقله. أعلم أن لدينا إمكانيات عالية يمكن استثمارها لصنع محتوى هادف يكون أكثر سلاسة وبساطة وقرباً من الناس، وعلينا كمتابعين دعمه ونشره ليصبح هو المحتوى الرائج بدل الإسفاف والابتذال والتضليل الذي يحكمنا.

توفي الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو عام 2016 عن عمر ناهز الـ 84 عاماً، ولم تفُتْه ملاحظة أن "أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن، فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء".

وأنا أضيف، إن تلك الأدوات أتاحت للجحافل من أصحاب الوعي المحدود أن يصدقوا أولئك البُلهاء ويتأثروا بهم، لذلك، فإن رفع مستوى الوعي لدى كلّ منا هو سدّنا المنيع الوحيد أمام تلك الجحافل..


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد