المفاوضات التي انطلقت في الدوحة، في الخامس عشر من الشهر الجاري، بهدف التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، بشأن وقف لإطلاق النار وتبادل الأسرى بين الجانبين، قد يصح وصفها بمفاوضات الفرصة الأخيرة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها ستنتهي إلى النتيجة التي يمكن أن تنهي العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بشكل خاص، والشعب الفلسطيني عامة، والوصول إلى صفقة حقيقية لتبادل الأسرى، وإنما قد تكون تلك المرحلة التي تسبق توسع الحرب، رغم محاولات معظم الأطراف تفادي الحرب الشاملة، كلّ لأسبابه الخاصة، لكن لا أحد يمكنه إبعاد احتمال اتساع الصراع، وتحوّله إلى صراع إقليمي كبير، وخروج هذا الصراع عن السيطرة.ولو نظرنا بإمعان إلى المواقف الإسرائيلية التي استبقت تلك المفاوضات، نرى أن حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة وضعت ألغامها في طريق هذه المفاوضات، حتى قبل أن تبدأ، من خلال شروط تعجيزية، تتمثل في أربع قضايا خلافية، يبدو الاتفاق عليها صعباً، إن لم نقل مستحيلاً. فاستناداً إلى المواقف المعلنة يتمسك الاحتلال الإسرائيلي بأربعة شروط ستنسف بالتأكيد مسار المفاوضات. وهذه الشروط هي:* استمرار سيطرة إسرائيل على محور فيلادلفيا (صلاح الدين)، ومعبر رفح البري بين غزة ومصر.* إنشاء آلية لضمان عدم السماح للمسلحين الفلسطينيين بعبور ممر نتساريم في وسط قطاع غزة إلى شمال القطاع، ووضع آلية لتفتيش الفلسطينيين.* معرفة عدد الأسرى الإسرائيليين الأحياء في قطاع غزة، والذين سيتم تبادلهم مع أسرى فلسطينيين في السجون الإسرائيلية* أن يكون لإسرائيل حق رفض أسماء أسرى فلسطينيين تطالب المقاومة بإطلاق سراحهم، وأن يتم ترحيل أسرى محررين إلى خارج فلسطين.وهذه الشروط يبدو من الصعب على المقاومة الفلسطينية قبولها، بعد أكثر من ثلاثمة يوم من الحرب المدمرة، قدم خلالها الشعب الفلسطيني أكثر من مئة وخمسين ألفاً من الشهداء، والجرحى . زِد على ذلك أن الاحتلال الإسرائيلي ما زال يواصل عدوانه على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والضفة الغربية، متجاهلاً قرار مجلس الأمن الدولي بإنهاء الحرب، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية، وتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة، بل ويمعن في ارتكاب المزيد من المجازر الكبيرة، والتي كان آخرها في مدرسة التابعين وسط قطاع غزة، التي خلّفت أكثر من مئة قتيل، وعشرات الجرحى، جلّهم من النساء والأطفال، ما دفع المقاومة الفلسطينية إلى التأكيد على أنها تفضل تنفيذ مقترح الاتفاق السابق، بدل خوص مفاوضات إضافية تخشى أن تصبح غطاء لـمزيد من المجازر الإسرائيلية.والظاهر لكل متتبع للسياسة التي ينتهجها بنيامين نتنياهو، أنه رغم ما يشاع عن الصلاحيات التي قدمها الأخير للوفد الإسرائيلي المفاوض، إلا أن المعارضة الإسرائيلية، وعائلات الأسرى الإسرائيليين، تتهم نتنياهو بعرقلة إبرام إي إتفاق خشية انهيار حكومته، إذ يهدد وزراء اليمين المتطرف بالانسحاب منها في حال قبول صفقة تنهي الحرب على غزة.لكن رغم كل هذه المحاذير، فإن جولة المفاوضات الحالية قد تكتسب أهميتها الاستثنائية من أن الولايات المتحدة ترى فيها فرصة لتوفير الظروف المناسبة لوقف التصعيد في المنطقة، وتجنّب حرب إقليمية.كما أن الحزب الديمقراطي عامة، يرى في هذه الصفقة في حال التوصل إليها دفعة له في الانتخابات الرئاسية القادمة، فالإدارة الأمريكية لا تسعى إلى إبرام الصفقة من أجل الحفاظ على الأرواح التي يمكن أن تزهق والدماء التي ستسيل في حرب إقليمية واسعة، وإنما تنتهج سياسة براغماتية ذات دوافع أنانية، وإلا لما استمرت في تعزيز ترسانة الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني . ويمكننا القول إنه رغم بعض التفاؤل الذي قد تبديه بعض الأطراف بشأن مفاوضات الدوحة، إلا أن ما يجري على الأرض يحجب هذا التفاؤل في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي .أخيراً، لابد من القول إنه حتى في حال التوصل إلى صفة لتبادل الأسرى، فإن مسألة ما يطلق عليها مرحلة اليوم التالي للحرب ستكون أكثر تعقيداً ، فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم يولد على خلفية الأسرى لدى الطرفين، وإنما هو صراع وجودي، فشل فيه الاحتلال الإسرائيلي، وخلال أكثر من خمسة وسبعين عاماً، في القضاء على المقاومة الفلسطينية، وطمس الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وبكل تأكييد فإن هذه الجولة الدامية من الصراع بين الجانبين، ليست سوى حلقة من حلقات هذا الصراع الطويل الذي لن ينتهي إلا من خلال سلام حقيقي، يضمن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة التي كفلها له القانون الدولي، والمواثيق والأعراف الدولية .
مفاوضات الفرصة الأخيرة
مواضيع ذات صلة