: آخر تحديث

عاشوراء الخليج وتعزيز روح الخير والألفة المجتمعيّة!

24
14
15

حسن المصطفى

"جدتي، وأنا صغير، كانت تتبرع للحسينية القريبة ببعض الخراف والقهوة والفناجين، بل تشارك في العزاء، وكان عزاءً بسيطاً تربّت النساء فيه على ركبهن بانتظام، وهن يستمعن إلى شخص معمم. الأفراد من أهل الشيعة كانوا يوزعون في ذلك الوقت الأكل المطبوخ (أرز ولحم) على الجيران والمعارف بصرف النظر عن انتمائهم المذهبي".

المقطع أعلاه مقتطف من مقالة للدكتور محمد الرميحي، بعنوان "فقه الفتنة"، نشرها في "النهار العربي" في 16 تموز (يوليو) الجاري، تحدث فيها عن مشاهداته وذكرياته خلال عقود خلت للتعاون بين الكويتيين خلال موسم عاشوراء، من دون أن تكون هنالك حساسيات طائفية أو مواقف مسبقة، بل روح من الألفة والتفاهم.

مقالة الرميحي ذكرتني بمقالة سابقة للدكتور توفيق السيف، نشرها عام 2012 في صحيفة "الاقتصادية" السعودية، عنوانها "عيش الحسين"، جاء فيها "ألحّت على ذهني صورة المرحوم الدكتور غازي القصيبي وأنا أعبر الطريق أمام صف من القدور الضخمة، وعشرات من الناس يطبخون الأرز صباح الجمعة الماضي. قال لي - رحمه الله - يوماً: لم أشارك في العزاء، لكن اللي يعزي واللي ما يعزي ياكل عيش الحسين، وقد أكلته في كل عام من أعوام الشباب''.

مقالة الرميحي ذكرتني بمقالة سابقة للدكتور توفيق السيف، نشرها عام 2012 في صحيفة "الاقتصادية" السعودية، عنوانها "عيش الحسين"، جاء فيها "ألحّت على ذهني صورة المرحوم الدكتور غازي القصيبي وأنا أعبر الطريق أمام صف من القدور الضخمة، وعشرات من الناس يطبخون الأرز صباح الجمعة الماضي. قال لي - رحمه الله - يوماً: لم أشارك في العزاء، لكن اللي يعزي واللي ما يعزي ياكل عيش الحسين، وقد أكلته في كل عام من أعوام الشباب''.

قبل سنوات، كتبت مقالةً عن ثقافة التعايش في الإمارات، وكيف تتجاور الحسينيات ومساجد المسلمين باختلاف مذاهبهم مع المعابد والكنائس، وهي ثقافة ليست جديدة بل لها جذورها التاريخية؛ وفي اتصال مع الصديق ياسر حارب، تعليقاً على ما كتبت، أخبرني أنه شخصياً تربى في منطقة مختلطة "بر دبي"، وأن والده كان مع أبناء جيله يجلسون في المآتم سوية وبشكل طبيعي وعفوي.

قبل سنوات، كتبت مقالةً عن ثقافة التعايش في الإمارات، وكيف تتجاور الحسينيات ومساجد المسلمين باختلاف مذاهبهم مع المعابد والكنائس، وهي ثقافة ليست جديدة بل لها جذورها التاريخية؛ وفي اتصال مع الصديق ياسر حارب، تعليقاً على ما كتبت، أخبرني أنه شخصياً تربى في منطقة مختلطة "بر دبي"، وأن والده كان مع أبناء جيله يجلسون في المآتم سوية وبشكل طبيعي وعفوي.

هذه الصور الإيجابية للعلاقة بين المواطنين في دول الخليج، ليست خاصة بالسعودية والإمارات والكويت، بل ستجد مئات القصص في البحرين وقطر وعُمان؛ وهي دليل إلى أن المجتمعات الخليجية كان الدين فيها قوة رحمة، وألفة، وتواصل.

هذه الصور الإيجابية للعلاقة بين المواطنين في دول الخليج، ليست خاصة بالسعودية والإمارات والكويت، بل ستجد مئات القصص في البحرين وقطر وعُمان؛ وهي دليل إلى أن المجتمعات الخليجية كان الدين فيها قوة رحمة، وألفة، وتواصل.

إذاً، ما الذي حدث تالياً، وأدى إلى بعض التشنجات والخطابات العنيفة طائفياً؟ الذي طرأ هو أنه "ظهرت في العقود الأخيرة فتاوى من الجانبين، معتمدة في الغالب على ما كُتب في الكتب الصفراء، إبان اشتداد الصراعات السياسية بين الأطراف المتصارعين على الحكم والسلطة، مشحونة بعبارات ومفاهيم تكفيرية لعالم المسلمين الذي كان يتفكك وقتها ومليئاً بالصراع السياسي، وضخم الخلاف بين أهل السنّة والجماعة وأهل التشيع"، وفق ما يرى الدكتور محمد الرميحي في مقالته "فقه الفتنة".

إذاً، ما الذي حدث تالياً، وأدى إلى بعض التشنجات والخطابات العنيفة طائفياً؟

الذي طرأ هو أنه "ظهرت في العقود الأخيرة فتاوى من الجانبين، معتمدة في الغالب على ما كُتب في الكتب الصفراء، إبان اشتداد الصراعات السياسية بين الأطراف المتصارعين على الحكم والسلطة، مشحونة بعبارات ومفاهيم تكفيرية لعالم المسلمين الذي كان يتفكك وقتها ومليئاً بالصراع السياسي، وضخم الخلاف بين أهل السنّة والجماعة وأهل التشيع"، وفق ما يرى الدكتور محمد الرميحي في مقالته "فقه الفتنة".

أعتقد أن ما أشار له الرميحي هو سبب رئيس، من دون إغفال أسباب أخرى لها أثرها السلبي، أدت إلى أن تكون هنالك سلطة واسعة للوعاظ المتشددين، ودفعت نحو خطاب طائفي، انعزالي، يقوم على التحريض على الآخر، ويصور المختلف مذهبياً وكأنه خارجٌ عن الدين.

أعتقد أن ما أشار له الرميحي هو سبب رئيس، من دون إغفال أسباب أخرى لها أثرها السلبي، أدت إلى أن تكون هنالك سلطة واسعة للوعاظ المتشددين، ودفعت نحو خطاب طائفي، انعزالي، يقوم على التحريض على الآخر، ويصور المختلف مذهبياً وكأنه خارجٌ عن الدين.

تجاوز هذه الانقسامات الطائفية ليس أمراً عسيراً، بل ممكن، ومتحقق في جزء كبير منه اليوم، وإن كان يحتاج لوقت وعمل تنويري مستمر، وترسيخ لقيم التعايش السلمي وتعدد الثقافات والنظر إلى الدين بوصفه رحمة للبشرية ودعوة إلى الأخوة والتعاون، وأن الهوية الوطنية هي الإطار المشترك الجامع لمختلف المواطنين، ومن خلال هذه الهوية يقدمون ذواتهم، ويمارسون شعائرهم بحرية واحترام وتحت سقف القانون العادل، لأن "المواطنة" تكفل الحقوق بالتساوي وتحدد الواجبات، وهذا ما تعمل عليه دول الخيلج، وفي مقدمتها السعودية عبر "رؤية المملكة 2030" والتي هي مشروع تحديثي – ثقافي، وليست مجرد خطط اقتصادية وتنموية فقط، بل طالت إصلاحاتها مختلف نواحي الحياة المجتمعية.

تجاوز هذه الانقسامات الطائفية ليس أمراً عسيراً، بل ممكن، ومتحقق في جزء كبير منه اليوم، وإن كان يحتاج لوقت وعمل تنويري مستمر، وترسيخ لقيم التعايش السلمي وتعدد الثقافات والنظر إلى الدين بوصفه رحمة للبشرية ودعوة إلى الأخوة والتعاون، وأن الهوية الوطنية هي الإطار المشترك الجامع لمختلف المواطنين، ومن خلال هذه الهوية يقدمون ذواتهم، ويمارسون شعائرهم بحرية واحترام وتحت سقف القانون العادل، لأن "المواطنة" تكفل الحقوق بالتساوي وتحدد الواجبات، وهذا ما تعمل عليه دول الخيلج، وفي مقدمتها السعودية عبر "رؤية المملكة 2030" والتي هي مشروع تحديثي – ثقافي، وليست مجرد خطط اقتصادية وتنموية فقط، بل طالت إصلاحاتها مختلف نواحي الحياة المجتمعية.

القصص الجميلة التي رواها محمد الرميحي وتوفيق السيف وياسر حارب، ليست صوراً قديمة يتم تعليقها على حائط الذكريات، أو في كتب التاريخ، بل هي واقعٌ مستمرٌ، معيشٌ، ينساب بين ثنايا المجتمع، وإن سعى بعضهم لتخريبه أو تغييبه، أو غفل عنه بعضهم الآخر وتعاموا عن رؤيته!

القصص الجميلة التي رواها محمد الرميحي وتوفيق السيف وياسر حارب، ليست صوراً قديمة يتم تعليقها على حائط الذكريات، أو في كتب التاريخ، بل هي واقعٌ مستمرٌ، معيشٌ، ينساب بين ثنايا المجتمع، وإن سعى بعضهم لتخريبه أو تغييبه، أو غفل عنه بعضهم الآخر وتعاموا عن رؤيته!

قوة الخير في المجتمعات الخليجية أقوى من أي قوة شر، والتعاضد الاجتماعي والسلم الأهلي قيمٌ تحميها الدولة الوطنية، وتحافظ عليها بقوة القانون.

قوة الخير في المجتمعات الخليجية أقوى من أي قوة شر، والتعاضد الاجتماعي والسلم الأهلي قيمٌ تحميها الدولة الوطنية، وتحافظ عليها بقوة القانون.

من يتابع موسم عاشوراء في السعودية ودول الخليج العربي، فسيجد تعاوناً واسعاً بين المواطنين والأجهزة المدنية والأمنية المعنية بتنظيم المناسبة، وسيشاهد وعياً متزايداً بين المواطنين بأهمية هذا التعاون، وضرورة أن يكون الموسم مناسبة لتعزيز القيم الأخلاقية العليا، والبعد عن أي خطابات حادة تقسم المجتمع.

من يتابع موسم عاشوراء في السعودية ودول الخليج العربي، فسيجد تعاوناً واسعاً بين المواطنين والأجهزة المدنية والأمنية المعنية بتنظيم المناسبة، وسيشاهد وعياً متزايداً بين المواطنين بأهمية هذا التعاون، وضرورة أن يكون الموسم مناسبة لتعزيز القيم الأخلاقية العليا، والبعد عن أي خطابات حادة تقسم المجتمع.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد