سمير التقي
منذ حقبة العولمة الأولى التي أطلقها كولومبوس في عام 1500، قام النموذج الاقتصادي الأميركي على تسعير منقطع النظير للنمو: نمو التكنولوجيا والسوق الداخلية، والهجرة، والتكامل الاقتصادي الوطني، ورأس المال المالي. ومن لنكولن لروزفلت لأوباما، اعتقد الرؤساء الأميركيون أن التخفيضات التفاوضية للحواجز التجارية العالمية ستجعل الولايات المتحدة والعالم أكثر ثراء وأماناً.
لكن، على الرغم من زمانهم الديموغرافي، حيث يعيشون في بيوت الضواحي الواسعة، ويتكاثرون بشكل معقول، فإن غياب التوسع السكاني الكبير وضعف توسع السوق الداخلية يُفقدان نموذج كولومبوس تفوقه بشكل حاسم.
لذلك، بعد عقود طويلة من تشجيع اقتصاد عالمي منفتح ومتعدد الأطراف، يصعد اتجاه اقتصادي قوي لوقف الاندفاع نحو العولمة "المفرطة". كانت إرهاصاته الأولى في النهج المتشدّد لترامب، في فترة رئاسته الأولى، تجاه الخصوم والحلفاء، ليفرض تعريفات تصل إلى 25 في المئة على كل واردات الصلب والألومنيوم، وتعريفات مماثلة على ثلاثة أرباع الواردات من الصين، ودفع كندا والمكسيك إلى إعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرّة لأميركا الشمالية.
ولم يغيّر مجيء بايدن من هذا المسار. لكنه استمر بشكل أكثر مراعاة للحلفاء. واستمرت كاثرين تاي في دعم زيادة الرسوم الجمركية بنسبة 100 في المئة على السيارات الكهربائية الصينية وأشباه الموصلات وبطاريات الليثيوم والخلايا الشمسية والصلب والألمينيوم الصينية. بل، وفي عام الانتخابات، وتحت تأثير موجة الحمائية الاقتصادية، اختفى إنصاف بايدن للحلفاء المقرّبين.
وعد بايدن، على سبيل المثال، بمنع الاستحواذ المقترح لشركة "نيبون ستيل" اليابانية لشركة الصلب الأميركية، على الرغم من تعهّد الشركة اليابانية باحترام العقود النقابية، ونقل مقرّها الرئيسي إلى بيتسبرغ، وعدم خفض الوظائف أو نقل الإنتاج إلى الخارج.
لكن مجيء ترامب في ولاية ثانية يعني انعطافاً أعمق وأكثر حدّة نحو نهج اقتصادي قومي وراديكالي. ولا تبدو القومية العدوانية لسياسات ترامب مجرد نزوة عابرة، اذ تراهن مراكز القوى المالية الداعمة لترامب على أنه "على الرغم من أن ترامب سيكون أشبه بسفينة خربة، لكنه ضروري لتحقيق مصالحهم الكبرى". ولن توكل هذه المراكز لترامب مهمّة تحويل النموذج الاقتصادي الأميركي، بل تحويل موقع أميركا في الاقتصاد العالمي.
في مقابل الإجماع السابق على "فوائد تحرير التجارة"، يرفع هؤلاء الخبراء شعار "لا للتجارة الحرّة"، ويعتقدون بقوة أن السياسات السابقة بخفض التعريفات الجمركية، وتكبيل أيدي واشنطن تجارياً من خلال قواعد التجارة العالمية، مثلت "فشلاً صارخاً لا جدال فيه"، تمّ على حساب الصناعة والعمال، وانعكس في انكفاء الموقف الاستراتيجي الأميركي في مواجهة الصين. بل يتهم هؤلاء الشركات المتعددة الجنسيات والمستوردين بالمسؤولية عن هذه الكارثة. إذ لا ينبغي أن تشغل أميركا نفسها بأن تكون قوة استقرار في الاقتصاد العالمي، بقدر انشغالها بمصالحها الاقتصادية القومية المباشرة.
وبهدف تعزيز الصادرات الأميركية، يتجّه ترامب نحو خفض قيمة الدولار الأميركي، لذلك سيبذل جهوداً متضافرة لإضعاف الدولار الأميركي. لكن هذه السياسات محفوفة بالمخاطر الاقتصادية، كونها لا تأخذ في الاعتبار حقيقة أن جزءاً مهمّاً من ارتفاع قيمة الدولار ناجم عن كونه العملة الصعبة العالمية، وعن قوة الاقتصاد الأميركي وعن الصراعات الدائرة في العالم، بحيث تهاجر كتل هائلة من رؤوس الأموال باحثة عن ملاذ آمن نحو شراء الأصول الأميركية.
وتعتقد هذه المراكز الداعمة لترامب، أن شركاء أميركا التجاريين يتبعون سياسات عدوانية، تدفع الاقتصاد الأميركي نحو الانحسار، من خلال دعمهم المباشر لصناعاتهم الوطنية وإغراقها السوق الأميركية ببضائعهم التي تباع بأقل من تكلفتها، لتصبح إحدى المهمّات الأولى لإدارة ترامب إعادة ترميم قطاع الصناعات التقليدية المتداعي، بعد أن حلّ محله في الأولوية اقتصاد المعلومات، والصناعة الخضراء، والتجارة والخدمات الدولية، بما في ذلك قطاع التعليم العالي والسياحة.
وفي مقابل ما كان يعتقد به معظم الاقتصاديين، وهو أن العجز التجاري يعكس مؤشراً لمعدلات الإدخار الوطنية العالية، كنتيجة ضرورية لارتفاع الاستهلاك الأميركي، وانخفاض المدخرات، يحاجج الفريق الاقتصادي لترامب في المقابل ضدّ هذا المنطق، ويعتبر أن العجز التجاري ينقل الثروة الأميركية مباشرة إلى جيوب الصين وغيرها من المنافسين. ذلك إن الهدف الأول لترامب، في حال نجاحه، سيكون تحقيق التوازن التجاري ليس مع الصين وحدها، بل مع باقي دول العالم أيضاً.
على الصعيد الداخلي، يرى فريق ترامب ضرورة إصلاح شامل للنظام الضريبي لتعزيز القدرة التنافسية للتصنيع في الولايات المتحدة، "لأن الصادرات الأميركية تعاني من إجحاف مزمن". ففي حين تعتمد أوروبا وغيرها في ضرائبها أساساً على نظام القيمة المضافة (VAT)، فإن السلع والخدمات المصدّرة من هذه الدول تكون معفاة منها. أما الضرائب الأميركية فتعتمد إلى حدّ كبير على الدخل، في حين تحظّر قواعد منظمة التجارة العالمية استرداد هذه الضرائب. بذلك، تدفع الشركات الأميركية ضرائب مضاعفة في أميركا، ثم ضرائب الـ (VAT) في البلدان المستوردة. وما يريده ترامب هو جعل ضرائب الشركات "قابلة للتعديل على الحدود"، لمحاكاة مزايا ضريبة القيمة المضافة في أوروبا وغيرها من البلدان.
لكن، الأداة التي يحبذها ترامب ستكون التعريفات الجمركية، إذ يعتبر خبراؤه أن "التجربة الجريئة" للولايات المتحدة في إلغاء التعريفات "فشلت". لذلك، لا بدّ من فرض تعريفات جديدة لا تقلّ عن 10 في المئة على المستوردات، ناهيك عن رسوم إضافية أكثر استهدافاً "لخفض العجز التجاري وتسريع إعادة تصنيع أميركا". وسيسمح ذلك، من وجهة نظرهم، بنشوء وظائف صناعية ذات رواتب عالية وأرباح تجارية كبيرة.
إضافة إلى ذلك، يعتقد هؤلاء الخبراء أن بعض القوانين الأميركية التي تعفي من الرسوم معاملات الاستيراد الصغيرة تفيد الصين بشكل كبير، وهذا ما تعتبره أوساط ترامب مسؤولاً عن هجرة رؤوس الأموال والخبرات للخارج. فلقد نمت، على سبيل المثال، شركات الأزياء الصينية العملاقة لتبلغ مبيعاتها السنوية ما لا يقل عن 30 مليار دولار، وهي تسيطر الآن على ما يقرب من 30 في المئة من سوق الأزياء في الولايات المتحدة، من دون وجود متجر أو علامة تجارية أميركية واحدة ضمن بضائعها.
في زمن العولمة الكبرى، تسعى خطة ترامب للانكفاء على العولمة، نحو اقتصاد قومي يقلب اقتصاد أميركا وموقعها الدولي رأساً على عقب. وعلى الرغم من بريقها على الورق، تبدو خطته محفوفة بالمخاطر والتناقضات الهائلة، ليس لأنها تتجاهل احتمالات التحالفات الدولية المضادة، بل لأنها تتجاهل تناقضات المصالح بين قوى رأس المال الأميركي، وخصوصاً قوى التكنولوجيا الحديثة، لذلك لا تبدو سيناريوهات هذه الخطة قابلة للحساب، بل تزيد من حالة عدم اليقين والاضطراب والاعتلال الأميركي. وهذه خسارة بحدّ ذاتها.