إدريس لكريني
د. إدريس لكريني
عاد موضوع الهجرة بإشكالاتها وفرصها إلى واجهة النقاشات السياسية والأكاديمية، مع تمدد الأحزاب اليمينية وتنامي الخطابات الشعبوية في عدد من البلدان الأوروبية المعروفة بجاذبيتها للمهاجرين.
فاكتساح اليمين المتطرف لمؤسسة البرلمان الأوروبي ولعدد من برلمانات الدول الأوروبية العريقة، وما رافق ذلك من إطلاق خطابات متطرفة ترمي الهجرة بكل الأوصاف القدحية من انغلاق وعنف وأزمات اجتماعية واقتصادية..
وفي هذا السياق، أقامت منظمة العمل المغاربي (هيئة مدنية بحثية) لقاءً علمياً بمراكش، طرحت من خلاله الكثير من الإشكالات التي تثيرها الهجرة في ارتباط ذلك بالشباب، سواء تعلق الأمر بالفرص أو الإشكالات، أو بالجانب المفاهيمي والقانوني للظاهرة وكذا الفرق بين اللاجئ والمهاجر، وصور الهجرة أكانت نظامية أم غير نظامية، كما تم التطرق إلى مخلفات هجرة الكفاءات.
وقد تم التوقف عند مجموعة من العوامل الطاردة في هذا الصدد. كما هو الشأن في النزاعات العسكرية والتغيرات المناخية وتأثيراتهما، فيما يتعلق بالصراع على الموارد المائية والطبيعية وتوظيف النعرات العرقية في هذا الشأن.
ومثّل اللقاء مناسبة لطرح بعض التجارب المغاربية على مستوى حماية حقوق العمال المهاجرين، حيث تم التوقف عند عدد من المكتسبات التي تحققت في هذا السياق على المستويين المؤسساتي والقانوني، وكذا التحديات المطروحة التي يعكسها تزايد مستويات الهجرة الدولية بالتوازي مع تنامي خطاب الكراهية والعنصرية. كما تم الوقوف عند علاقة الهجرة بالتنمية بعيداً عن الخطابات النمطية التي ترفعها بعض التيارات اليمينية المتطرفة والشعبوية.
أما فيما يتعلق بالحالة الليبية فقد تمت الإشارة إلى أن الهجرة شهدت ارتفاعاً ملحوظا في البلاد منذ أحداث 2011 بسبب الإشكالات والصعوبات السياسة والاقتصادية والأمنية التي باتت تواجه الشباب الليبي.
وعلاقة بموضوع هجرة الكفاءات، تطرقت إحدى الأوراق إلى الهدر الذي بات يلحق بالقطاع الصحي في المغرب بسبب هجرة الأطر الطبية، باتجاه دول متقدمة بحثاً عن ظروف عمل أفضل.
وارتباطاً بالهجرة غير النظامية، تم الوقوف عند الإشكالات الإنسانية التي تطرحها الظاهرة بسبب السياسات الأوروبية الصارمة التي يحركها الهاجس الأمني، والتي تمخض عنها سقوط عدد كبير من الضحايا في سياق رحلات الموت بحوض البحر الأبيض المتوسط.
والأمر نفسه بالنسبة لموريتانيا التي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في ما يتعلق بالهجرة غير النظامية التي تغذيها عوامل مختلفة. وقد وقفت إحدى الأوراق المقدمة على هجرة الكفاءات النسائية، والتي تمثل ما يقرب من واحد من بين اثنين من المهاجرين، وطرحت الكثير من العوامل الاقتصادية التي تدفع إليها، مع الإشارة إلى أن الاعتبارات الجندرية تؤثر في الفرص والتحديات التي تواجه النساء بشكل مختلف عن الرجل.
فيما أبرز آخرون أهمية اعتماد تدابير وسياسات استراتيجية، تحول دون تفاقم هذا النوع من الهجرة الذي يكلف الدولة والمجتمع الكثير من الإمكانات، بل ذهبوا إلى ضرورة تشجيع هذه الكفاءات على العودة إلى بلدانها للاستفادة من خبراتها في عدد من المجالات العلمية والعملية؛ كما هو الأمر بالنسبة لعدد من الدول الرائدة في هذا الخصوص.
هذا وقد انتهت أشغال هذا اللقاء العلمي إلى إصدار مجموعة من التوصيات التي تمحورت حول أهمية فهم واستيعاب العوامل المغذية للظاهرة، وإرساء سياسات عمومية تكفل التعامل معها بقدر الموضوعية والشمولية، وذلك باستحضار فرصها إلى جانب التحديات التي تطرحها أيضاً. مع خلق جسر من التواصل المستدام بين النخب المهاجرة وأوطانها، وإصدار تشريعات وخطط استراتيجية تصب في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى بلورة تعاون إقليمي مغاربي يضمن الدفاع عن حقوق المهاجرين ومحاربة خطابات التمييز التي يتعرضون لها داخل عدد من البلدان الأوروبية. ثم الانكباب على مواجهة الإشكالات البيئية التي من شأنها تغذية ظاهرة الهجرة القسرية، كما تم التأكيد على ضرورة وضع دليل علمي يتضمن تحديد المصطلحات والمفاهيم المستعملة في مجال الهجرة، بما يخدم البلدان المغاربية ويضمن حقوق مهاجريها.
وتم التأكيد كذلك على أهمية تبني مقاربة وقائية لتنظيم تدفقات المهاجرين واللاجئين عبر الحدود، بإرساء أسس التنمية المستدامة وإعلاء النهج السلمي لحل النزاعات بين الدول، ثم ملاءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية ذات الصلة.
وأمام السياسات الأوروبية الصارمة تجاه الظاهرة، تمت الدعوة إلى «أنسنة» هذه السياسات، وذلك أخذاً بعين الاعتبار لظروف الشباب المهاجر والتحديات المختلفة التي تواجهه. ومن جانب آخر، دعا المشاركون إلى توحيد الجهود المبذولة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية لجعل الهجرة في خدمة الشباب، مع ضرورة تخصيص الموارد الكافية، وسن تشريعات ملائمة، لوقف نزيف هجرة الكفاءات المغاربية نحو الخارج.
وكسبيل لإرساء تعاون إقليمي متوازن، تمت الدعوة إلى بذل مزيد من التعاون بين دول ضفتي المتوسط، بما يعزز التعاون والتنسيق بأساليب تتجاوز المبالغة في التركيز على البعد الأمني نحو سياسة متوازنة وشمولية تستحضر الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية للهجرة. ثم التأكيد على أهمية طي البلدان المغاربية لخلافاتها والانكباب على تعزيز التعاون والتنسيق لمواجهة عدد من التهديدات والمخاطر المشتركة، وإرساء توازن على مستوى الحوار والتفاوض مع البلدان الأوروبية بقدر من الندية والتوازن بصدد عدد من الملفات والأولويات المشتركة، بما فيها ملفات الهجرة.