هناك نوعان من القضايا يحدّدان اتجاهَ الناخبِ الغربي؛ الأول قضايا «وجودية»، والثاني قضايا «معيشية».
الوجودية تشمل الحرب، أو الصراع الثقافي مع الشيوعية سابقاً، ومع تيارات «الووك»، والإسلام السياسي حالياً، بالإضافة إلى مغذيات هذا الصراع، مثل الهجرة غير المشروعة، والتغير الديموغرافي.
هذا النوع يعطيه الناخب الأولوية في وقت الأزمة، بينما يعطي القضايا المعيشية الأولوية في غير ذلك من الأوقات، من أراد قياس اتجاه الناخبين يجب عليه التفرقة بين هذين النوعين، وأيّ منهما الحاضر خلال استحقاق انتخابي معين.
بالنسبة للقضايا المعيشية، لم تَعُد الفروق بين أحزاب الوسط واضحةً للمواطن العادي منذ انهيار الكتلة الشيوعية، أحزاب اليسار انتقلت نحو الوسط على يد جيل من السياسيين، أبرزهم توني بلير في بريطانيا، وجيرهارد شرودر في ألمانيا، تزامناً مع رئاسة بل كلينتون في الولايات المتحدة. عُرف هذا التوجه وقتها بالطريق الثالث.
ومن هنا، لم يَعُد التأرجح البندولي البطيء بين يمين ويسار الوسط في غياب الأزمات الوجودية كافياً لتحديد اتجاه أوروبا. لاحظت في بريطانيا على مدار رُبع قرن، أن المواطن صاحب المستوى المعيشي الشائع، يستفيد من منافع الرفاهية الوقتية تحت حكم يسار الوسط، وحين ترتفع فاتورة الإنفاق الاقتصادي إلى مستوى لا تستطيع معه الدولة تحمّل تكلفة وعودها، كما حدث في 2008، يعود إلى يمين الوسط لضبط الاقتصاد، فإن مَلَّ إجراءات التقشف والالتزام الحكومي بترشيد الإنفاق ذهب إلى يسار الوسط. كما أن النخبة الصاعدة في الإعلام والبزنس، إن طال حكم حزب رئيسي، تسعى إلى إحلال الحزب الآخر مكانه؛ بحثاً عن فرص جديدة في النفوذ، الموضوع أبسط كثيراً من التفسيرات الآيديولوجية التي يُسقطها المعلقون في منطقتنا على انتخابات يحسمها الناخب المتأرجح غير الملتزم حزباً معيناً؛ شخصية زعيم الحزب، وكفاءة القيادة داخله، أهم من الآيديولوجيا.
الحكم على اتجاهات الناخب يحتاج إلى مراقبة اختياراته في القضايا الوجودية، المثال الأوضح كان «البريكست»، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هنا لدينا دليل على اتجاه الناخب البريطاني يميناً، إثر شعوره أن تغيّراً وجودياً يحدث، وأن عليه التدخل لمنعه، لاحظوا أن التصويت لصالح «بريكست» جاء على عكس رغبة النخبة على اليمين واليسار، وعلى عكس رغبة رئيس الوزراء، ممَّا أدى إلى استقالته.
ثم تأكد التوجه في المرحلة التي حاولت فيها النخبة عرقلة الاختيار الشعبي، أو المماطلة في تحقيقه، فتكتَّلَ التوجه الشعبي، بما فيه ناخبون تقليديون لحزب العمال، خلف بوريس جونسون، بوصفه رمزاً لـ«بريكست»، في الانتخابات العامة، إلى درجة مكّنت جونسون من اختراق «الجدار الأحمر» لأول مرة منذ عقود طويلة، والانتصار على حزب العمال في عقر داره.
في تلك الانتخابات أنهى التكتل الشعبي مهمته، وأمَّن إنجاز «بريكست»، الذي كان مدفوعاً في الأساس بالرغبة في مكافحة الهجرة القادمة عن طريق الاتحاد الأوروبي، ومقاومة الهيمنة الآيديولوجية لليسار الليبرالي عبر المحكمة الأوروبية، وإملاءات بروكسل. في الانتخابات التالية تخلَّى الناخبون عن مود الأزمة، وعادوا إلى اختياراتهم البندولية العادية.
الانتصار الكاسح ليسار الوسط في انتخابات بريطانيا الأخيرة ساهمت فيه عدة عوامل؛ منها رغبة الأكثر يمينية من ناخبي حزب المحافظين وأعضائه في معاقبة النواب الذين تجاهلوا الفريقين، وشكّلوا حكومة على مزاجهم، ومنها حصول حزب «الإصلاح» الأكثر تشدداً في ملف الهجرة، ومواجهة الإسلام السياسي على كتلة كبيرة من أصوات حزب المحافظين، ساعدت حزب العمال على حسم مزيد من الدوائر.
يخطئ إذن من يقرأ في انتصار العمال الكاسح في بريطانيا، بعد أعوام من حسم قضية «بريكست»، اتجاهاً جوهرياً نحو اليسار. تماماً كما يخطئ من يقرأ في الأكثرية، التي حصل عليها اليسار الراديكالي في انتخابات فرنسا الأخيرة، نهايةً لموجة أقصى اليمين، هذا انتصار جاء على حساب الوسط، ونتيجة لإجراء استثنائي في مواجهة مخاوف من حكومة يشكّلها أقصى اليمين. صعود أقصى اليمين في فرنسا مستمر، ومُنحَناه البياني إلى أعلى، حصل على 7 مقاعد فقط في انتخابات 2017، والآن بعد 7 سنوات ضاعَف هذا الرقم 20 مرة.
العامل المشترك بين بريطانيا وفرنسا هو الصعود الثابت للأصوات المدافعة عن المصلحة الوطنية والقيم المحلية، والمحذّرة من الإسلام السياسي وهيمنة «الووك»، بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات، هذه ظاهرة غربية عامة، وإن اختلفت تفاصيلها من دولة إلى دولة، صعود ترمب على حساب المؤسسة السياسية التقليدية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي يندرج تحت نفس الظاهرة، ونجاح النخبة السياسية المؤسسية في تهميش ترمب ثم جونسون، أو تأخير وصول مارين لوبان إلى موقع الصدارة ليس نهاية المطاف، الصعود من القاعدة مستمر، ولدينا الإسلام السياسي واليسار الراديكالي ضامنان لاستفزاز الرأي العام، وإشعاره بخطر وجودي يهدّد نمط حياته.