قال لي بصوت منكسر واهن وهو البالغ من العمر ثمانين حولاً: لقد عشت حياة طويلة مليئة بالوهم والتوهم، ظننتُ أنّني أعرف كل شيء، لكنّني لاحقاً لم أعرف سوى نفسي، لقد عشتُ أحسب كل الآخرين ظلاً أتفيأ تحته، ومتكأ أستند عليه، أحسبهم أنقياء ويلفهم البهاء والبياض، ويطوقهم النبل، وتلفهم السماحة والوقار، ويتدثرون بالنزاهة والطيبة، وأرواحهم كأنها الخميلة، كنت أحسب الحياة لوحة مزدانة بالألوان الجميلة، وأن الذي تحت الأرض مروج، والذي فوقها زهور، وأن قلوب الناس مدن مشرعة أبوابها للمحبة والسلام، وطرقاتها معبدة بالعفو والتسامح، كنت لا أعرف الندم، والأمل كان عندي مصباحاً يرافقني في كل مكان، أعيش الإحساس الصادق، وقلبي يحتوي الأشياء كلها، هندست روحي على الود والمحبة والطيبة الزائدة، هبت علي عواصف ورياح، لكنني كنت خلالها كورقة خضراء في جذع متين، كنت شعلة تحترق لتنير للآخرين العتمة، كنت أنظر بعين التفاؤل، كوني لا أحب الهزيمة والانكسار، كنت مثل شجيرات الصحراء تقاوم العطش لكي تكبر ويستظل العابرون بظلها، أفرح مع صوت العصافير حين تتسلل وراء الأفق مع ضوء الصباح، وحين تعود في آخر النهار محملة بالتعب، أحياناً يغرقني الحزن حتى أعتاد عليه وأنسى، لأن الذي منحتهم الضوء تركوني رهينة لأحزان الليالي المظلمة، كلما يسقط عندي حلم أحاول البحث عن حلم آخر، وكلما أنطفأ قنديل، أحاول إشعال قنديل آخر، نعم.. ابتسمت كثيراً، لكنني بكيت أكثر، الحياة فاكهة، لكنني لم أتذوقها لذيذة، عشت الخيبة، وأنا أبحث عن دلالات الصفاء والنقاء، في زحمة الحياة لم أعد أدري من أضاع الطريق أنا أم الآخر، حتى اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة لم تعد تهمني، الهلاويس التي كانت تلاحقني بين اليقظة والمنام، كانت تجيئني في فترات متقاربة، تلاحمت معها حتى تأقلمت، عشت عشرات السنين، وفي كل مرة أحاول الوصول تفاجئني الخيبة، أتوقف متجهما ولا طاقة لي سوى دفقات آمل واهنة، لا تمنحني الوقود الكافي..
جربت مرة أن أزرع نعناعاً، ومرة ريحاناً لكنني لم أفلح، كافأني الآخرون بأسوأ ما لديهم، كم خسرت في هذه الحياة، وكم توجعت، وكم فقدت، وكم أهدرت من أوقات وأحلام وجهود، افتقدتها في نهاية المطاف، حين نقارن مرات فشلي وخسارتي مع مرات نجاحي وكسبي، سنجد أنّ مرات الفشل عندي أكثر، ظننتُ أن الحياة بقعة ضوء، وبحيرة مزدانة بالعشب والأشجار والبلابل والبجع، ظننت ذلك ظناً مطلقاً وقطعياً، لكنّني فجأة صحوت وكأنني أفقت من حلم طويل على الواقع المرير، واقع مليء بالتناقض العجيب، والازدواجية المخيفة، والأقنعة الملونة، واختلاط الأشياء، أنا الآن أنتظر العبور الأبدي نحو حياة لا يوجد فيه انكسارات ولا أحزان ولا فشل ولا خسائر، وسأجد عند الله بحوله ثمار المعاناة، وجزاء الصبر.