عبداللطيف الزبيدي
ما هي منظومة القيم الحضارية البديلة، بعد تناثر أوراق منظومة القيم الحضارية الغربية، في الخريف الغربي؟ يقال: إن الجغرافيا السياسية لا تقبل الفراغ، وعلى المثقفين العرب إدراك أن منظومة القيم هي الأخرى لا تقبل الفراغ. لقد بلغ الافتتان بأوروبا حدّاً استلابيّاً مبالغاً فيه، حتى صارت «عقدة الخواجة» وشاحاً على صدور الكثيرين. أخذ الناس من الثمار الحضارية قشورها، واغترفوا من البحر بكشتبان، فلا تقل بقطّارة. من ذلك خلع الطرابيش واقتناء القبّعات، وارتداء البدلات.
الدعابة لا تبرح المشهد، فرفاعة الطهطاوي سافر إلى فرنسا وألّف كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، انبهاراً بالمدنيّة الأوروبية، بينما كانت اليابان قد أوفدت إلى مصر وفداً للوقوف على أسرار نهضتها في عهد محمد علي باشا. ذهل رجال الساموراي حين رأوا قطارات السكة الحديد والتلغراف في أرض الكنانة، فلم تكن اليابان قد حققت تلك الإنجازات بعد.
هذا هو منطلق الفرس. لا شك في أن الحقيقة مؤلمة، فليس من السهل أن يتفوّه أحد بأن جلّ العرب أضاعوا القرن العشرين من دون الاهتداء إلى الإدارة الفائقة التي تصنع لهم تنمية شاملة على مقاسهم. كلود شيسون، وزير خارجية الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران، نصح العرب: «لا تقلّدوا الغرب، بل اسلكوا طريق الهند في التنمية الهادئة التدريجيّة الوثيقة». لم يسمع القوم نصيحة صديق العرب. في شأن السودان فقط: ضاعت سلّة الغذاء العربي، ولم يقطفوا ولا حتى حبّة حنطة من فردوس التحوّل الديمقراطي الذي طال التغنّي به.
معك حق، فموضوعنا هو القيم الحضارية البديلة. بعد طيّ الصفحة الأخيرة من القرن العشرين، أفقنا، ليت أنّا لا نفيق، على أن الغرب وقد رمى بمنظومة قيمه في سلّة المهملات، نضا عنه ثوبها فإذا هو هيكل عظمي وفي يده منجل عملاق. كان الناس يظنّون أن الهالووين حفل تنكّري راقص، فإذا الواقع أن الغرب تنكّر لمبادئه. قال: «انقعوها واشربوا ماءها». الغرب بعد أوكرانيا وغزّة، قلب السترة الثقافية الفكرية الأخلاقية. الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري، الذي كان ينصف العرب والمسلمين، ظهر أخيراً في القناة الفرنسية الخامسة، سبحان مبدّل الأحوال، مستشهداً بقول سيمون دو بوفوار (قرينة سارتر): «أيّ شيء أنجزنا طوال 130 سنة في الجزائر؟ لقد عاد الحجاب والإسلام واللغة العربية». مفهوم أيها المثقفون؟
لزوم ما يلزم: النتيجة الاندهاشية: تناقض مضحك، يتوعدون بلداناً عربيةً بإعادتها إلى العصر الحجري، نشراً للحريّة والديمقراطيّة.