لا تزال حمَى التحضيرات للانتخابات الرئاسية الجزائرية المقرّرة في 7 أيلول (سبتمبر) 2024 تجري على قدم وساق. لكن معظم المراقبين السياسيين يلاحظون أنّه حتى الآن لم يقدّم أي حزب من أحزاب المعارضة الجزائرية مشروعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بديلاً، يمكن البناء عليه للخروج من المنطقة الرمادية التي تتحرّك فيها السياسات الجزائرية الرسمية، إلى أفق جديد يسمح بالانطلاق في التأسيس للدولة الحداثية مادياً وروحياً.
خلال الأسبوع المنصرم، وصلتُ إلى العاصمة الجزائر في زيارة ثقافية خاطفة، ووجدتُ وسائل الاعلام الجزائرية التابعةللحكومة وتلك التابعة لما يسمّى بالقطاع الخاص المستقل تردّد كلها تصريحات رؤساء أحزاب المعارضة، وبخاصة تصريحات زعيمي حزب القوى الاشتراكية (الأفافاس) الذي يترأسه يوسف أوشيش، وحزب حركة البناء الوطني الذي يترأسه عبد القادر بن قرينة.
ويُلاحظ أنّ تصريحات هذين الرجلين تدور حول مسائل مكرّرة مثل عدم اتخاذ حزبيهما قرار الترشح للرئاسيات المقبلة حتى الآن، بسبب عدم اكتمال المشاورات داخل هيئات الحزبين على مستوى الهياكل القاعدية والمركزية.
وفي هذا السياق، يبدو واضحاً أنّ الأمين العام لحزب القوى الاشتراكية قد اكتفى بتكرار عبارات يلفّها الكثير من الغموض، مثل قوله إنّ "المجلس الوطني للحزب سوف يعلن عن قراره المستقل والمسؤول". غير أنّه لم يحدّد للرأي العام الوطني زمان ومكان إعلان هذا القرار المفترض، وأكثر من ذلك فإنّه قد اكتفى بالاشارة، كعادة معظم الأحزاب الجزائرية المعارضة، إلى وجود عراقيل تحول دون انجاز "التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد".
ولكن أوشيش لم يوضح، سواءً لمناضلي حزبه أو للفئات الشعبية في الجزائر العميقة، وحتى للسلطات الحاكمة، من الذي يعرقل قطار التنمية في الجزائر، وفضلاً عن ذلك، فهو لم يذكر بالتفصيل حيثيات برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية المفترضة، والتي يقول إنّها لم تتحقق على أرض الواقع.
أما الوعود التي أطلقها الأمين العام لحزب "الأفافاس" يوسف أوشيش فهي محدودة وغامضة جداً في آن، حيث أنّها لا تتجاوز تخوم التلويح بفتح النقاش أثناء انطلاق الحملة الانتخابية لاختيار الرئيس الجزائري المقبل. أما القضايا الحقيقية المطروحة على الساسة الجزائريين والتي ينبغي مناقشتها، فلم يعيَن مفاصلها بشكل واضح أيضاً.
ويمكن للمحلل السياسي أن يستنتج من كل هذا أنّ الأمين العام لحزب القوى الاشتراكية غير متأكّد حتى الآن من المشاركة في السباق الرئاسي الذي ستشهده البلاد الجزائرية يوم 7 أيلول (سبتمبر) 2024، وقد فسّر المراقبون السياسيون الجزائريون غموض تصريحات يوسف أوشيش بأنّها تدخّل من حيث الجوهر المضمر ضمن التقاليد الجديدة التي دشَّنها هذا الحزب وقياداته منذ تخلّي مؤسسه التاريخي حسين أيت أحمد عن النهج الاشتراكي الذي كان لفترة طويلة ايديولوجيا هذا الحزب ورافعته العقائدية، وكذلك منذ إبرامه صفقة القبول بالعهدة الثالثة غير الشرعية لصالح الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة مقابل مصالح مادية دار حولها حديث طويل حينذاك، ووصفت بأنّها ذات طابع شخصي تخصّ زعيم ومؤسس حزب "الأفافاس" فقط.
وتتمثل الصفقة، بحسب تأويلات عدد معتبر من المعلّقين السياسيين الجزائريين، في حصول الزعيم أيت أحمد، من الرئيس بوتفليقة على تقاعد مخمليَ وبالأثر الرجعي كمجاهد وكأحد زعماء ثورة تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 الكبار، وقد قدّر مبلغ ذلك التقاعد بملايين الدولارات التي حُوّلت بسلاسة من طرف الأجهزة الرسمية البوتفليقية إلى حسابه البنكي في سويسرا، حيث كان قد قضى سابقاً الكثير من سنوات المنفى في عهد حكم كل من الرئيس أحمد بن بلة وهواري بومدين.
ويرى الشارع الشعبي الجزائري، أنّ تصريحات الأمين العام لحزب حركة البناء الوطني، عبد القادر بن قرينة، أيضاً مراوغة في عمومها، وإن كانت تشبه في عدد منها بعض مقاصد ومضامين تصريحات الأمين العام لحزب القوى الاشتراكية، إذ تلتقي، مثلاً، عند عدم تحديد الشخصية التي سوف تدخل السباق الرئاسي حتى الآن.
ورغم بعض التشابه المذكور، يبدو واضحاً جداً أنّ تصريحات بن قرينة توحي أنّ حزبه أكثر قرباً من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الأمر الذي يفسّر بأنّ ترشح بن قرينة في سباق الرئاسيات أو ترشح شخصية أخرى عن حزبه سوف يكون من حيث الجوهر مجرد مشاركة رمزية تفرش الورود للرئيس الحالي ليصل مجدداً إلى القصر الرئاسي بأعالي منطقة المرادية في مناخ من التعددية الشكلية ومباركة الجناح الإسلامي الذي يؤطره راهناً بن قرينة.
ويؤكّد هذا التوجّه تصريحه التالي الذي قال فيه إنّ "استكمال برنامج الجزائر الجديدة في حاجة ماسّة إلى بناء حزام يؤمّن المشروع الوطني ويعزز التلاحم ويقف جداراً مانعاً ضدّ محاولات الاختراق"، علماً أنّ شعار "الجزائر الجديدة" الذي ورد في تصريح بن قرينة قد رفعه الرئيس عبد المجيد تبون فور وصوله إلى سدّة الرئاسة، ليميز عهده عن عهد سلفه بوتفليقة الذي لقّب بعهد "الجزائر القديمة" وتميّز بالفساد السياسي والمالي.