قليلون جداً، وربما نادرون أولئك الذين يمثل رحيلهم حالة فقد ذاتية لكل شخص، ويتحول الحزن عليهم إلى حالة عامة عفوية وتلقائية صادقة، تؤكد إجماعهم على استثنائية وفرادة الراحل، وعظيم مكانته في نفوسهم، فكيف إذا كان قد أمضى عمره يعزف على أوتار قلوبهم، ويلامس أرقَّ مشاعرهم، ويعبّر عن أرهف أحاسيسهم، ويسعفهم بالبوح عن مكنونات أنفسهم في كل حالاتها، وكأنه يسكن في وجدان كل شخص، ويفهم تماماً ما يختلج في روحه ويود التعبير عنه بمفردات لم يستهلكها التكرار، وتركيبات وصور غير مسبوقة، تتكثف فيها المعاني بأناقة باذخة وصدق عميق.
هكذا كانت حالة التفاعل مع رحيل الشاعر بدر بن عبدالمحسن، رحمه الله، الذي اتفق الناس على تسميته «البدر» بحيث لا يعني هذا الوصف أحداً سواه، إنها حالة حزن وأسى عامة، وتظاهرة حب شاملة منذ إعلان رحيله يوم السبت الماضي، سوف تستمر طويلاً لأن حضوره مستمر، يتوهج مع كل قصيدة صاغت أغنية عذبة حجزت موقعها الأبدي في الذاكرة الجمعية.
لقد كان رحيل البدر حالة استفتاء عامة على الشعر المختلف، وعلى الشاعر القادر على خلق عالم شعري خاص به، هو وحده الذي يحمل مفاتيحه، ويشكّل تفاصيله، ويرسم ملامحه، كي يتماهى بشفافية متناهية مع كل حالات النفس الإنسانية. عالم شعري قريب من كل الناس، يجدون فيه توليفة لا يجيدها سواه.
خمسون عاماً وذلك البدر الجميل يسكب ضوءه على لحظاتنا، كان معنا دائماً، في الحزن والفرح، في الفخر والزهو، في الحب واللوعة، في الأسى والشجن، في اللقاء والوداع، في البقاء والرحيل. ساندنا في انكساراتنا وضمّد مواجعنا، سهر معنا ليالي الأشواق والحنين، وحرضنا على الانعتاق من الحصار والقيود، والانطلاق في غواية الأحلام اللذيذة. كان يعلّمنا كيف نتمادى في أحلامنا ولا نأبه بحدود الممكن، وكيف نقطف النجوم ونصاحب العصافير ونصادق الفراشات ونمرح في حقول الورد. كان يفلسف لنا حياتنا بالانحياز إلى الجمال، والجمال فقط.
كانت حياة البدر رسالة إنسانية سامية لكنها مجهدة، لأنها كانت شعراً صادقاً وجميلاً. وعندما نودعه جسداً فإنه لن يغادرنا روحاً، لأنه البدر الذي لا يغيب.