: آخر تحديث

التّعليم العالي العراقيّ: أسلمة بمقاس مالكي الوزارة

3
4
4

قد لا يُصدق مَن درس في جامعات العراق، بغداد والبصرة والموصل، في ما مضى، عندما يطّلع على كوارث التَّعليم داخل هذا البد المبتلى "حتّى اختزى"، أقول لا يصدق لأنه يتفاخر على أترابه بأنه نال شهادته الجامعيّة مِن بغداد، ناهيك بتخصصات لا تطالب جامعات أوروبيّة بمعادلة الشّهادة الصادرة عنها، ويكفيها أنها من بغداد. وقديماً قال أحد شعراء "ما وراء النّهر" أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب: "لا تعجبن من عراقي رَأَيْت لَهُ/ بحراً من الْعلم أَو كنزا من الْأَدَب/ وأعجب لمن بِبِلَاد الْجَهْل منشؤه/ إِن كَانَ يفرق بَين الرَّأْس والذَّنب"(الثّعالبيّ، يتيمة الدّهر في محاسن أهل العصر).

أقول: لو عاد هذه الرّجل، واطلع على ما يحصل في مجال التّعليم، وسيادة الوهم وجبروته على الأذهان، لهان عليه هذا العراقيّ، الذي تعجب من علمه وأدبه، في ظل وزراء جعلوا الوزارات حقولاً لعقائدهم، وأحزابهم. يتصرف الوزير بالوزارة التي نُسب إليها، فهي حقله الخاص، يزرعها ما يرى ويرغب، وترغب الجهة التي صارت الوزارة من حصتها. لا نذهب بعيداً عندما صار أحدهم، الذي نال شهادتين بتفسير القرآن، من دكاكين بالهند، وصار قبل السُّلطة، يقرأ المقدمة قبل قارئ المنبر، وفقه حزبه ليكون وزيراً للتربية والتعليم، فقال قولته المدوية: "لي الشّرف بإعادة تشكيل العقل العراقيّ"!

بالفعل أصبح العقل العراقي يتشكل كيفما شاءت قوالبهم الحزبيّة؛ ليس المطلوب الخبرة ولا المعرفة، المطلوب استدامة الوهم في هذا العقل، ولا يستيقظ، حتّى لا يبقى شيء يعول عليه في المستقبل، جيل ينقل الوهم إلى جيل، فحلت الحوزات الدينيّة، وليتها من النّجف، إما خرّجتهم قم أو الست زينب، فأتوا وزراء ومديرين، فمرة تصير وزارة الثّقافة بيد مؤذن ومتدرب في معسكرات "سرايا الدفاع"، ومرة تحت هيمنة ميليشيا، أما وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي، فمرة تكون حصة حزبٍ يعتبر المروج للقتل مفكره وصوت فضائيته، وهذه المرة لميليشيا.

أمامي قائمة المناهج التي يشترط تدريسها في مجالات التعليم العالي، وضعتها لجنة وزارية، ودفعتها إلى الوزارة بتاريخ (26/9/2023)، لتأتي مصادقاً الوزير عليها بغضون الشّهر أي في (19/10/ 2023)، هذه المناهج لو تقررت في حوزة دينية، أو لحقة ثقافيّة عامة، ليست مدرسة ولا جامعة دولة، أو بلاد مثل العراق، لرُفضت، لأنَّ المؤلفين لا شأن لهم بمنطق التّدريس، ولا ما ترجوه الوزارة مِن آفاق المستقبل. لكن لأنَّ الوزارة بيد وزير، وزارته ملك ميليشيا دينية، فهي لا بدَّ لها من جعل تلك المناهج وفق عقيدتها، أو أوهامها، على أنها مناهج علميّة.

جاء في ديباجة قرار وزارة التعليم العالي، في تغيير المناهج الآتي: "حصلت مصادقتنا على أصل محضر اللجنة الوزاريّة، المشكلة بموجب الأمر الوزاريّ، ذي العدد (كذا وكذا)، التي تولت إثراء المناهج، والمصادر الدِّراسيَّة (للدِّراسات الأوليّة والعليا) بالمصادر والمراجع المؤلفة، مِن قِبل عُلماء ومفكرين عراقيين، لهم الأثر الكبير من خلال سيرهم ومؤلفاتهم، وإقرار بعض تلك المصادر، ككتب منهجيّة أساسيَّة، أو مساندة، ووفقاً لما جاء بكتب لجان العُمداء المختصة، التي أيدت توصيات اللّجنة أعلاه، والتي تضمنت باعتماد الكتب الآتية، في إثراء المناهج والمصادر الدّراسيّة، ووفقاً للتخصصات".

أولاً: إن مؤلفي هذه الكتب المصادر ليسوا علماء ولا مفكرين تدخل كتبهم في تدريس الجامعات، هؤلاء يا سادة فقهاء أو علماء دين، أين اطلاعهم على فنون المعرفة الحديثة، كي تكون كتبهم مناهج مفروضاً تلقينها لطلبة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه؟ هذه المناهج تحتاج أصحاب علوم ودراسات وباحثين، في العلوم الحديثة التي تناسب الزّمن، ويُنتظر منها التقدم العلمي والبحثي. نعم، ليكن هؤلاء كباراً في الفقه، أو في تصوراتهم الدِّينية، المحدودة بدراستهم، لا تؤخذ مناهج تفرض في التعليم الرّسميّ، ليتخرج منها أجيال، فهذه وزارة دولة لا حوزة طائفة.

ثانياً: ما فُرض من مناهج، وسنأتي على ذكرها، لا يُعد إثراءً، مثلما ورد في ديباجة القرار، بل إفقاراً علمياً، مع أنَّ العالم اليوم يتسابق على المعرفة الحديثة، وليس من الحقّ أن تربط مناهج جامعات بلد، يدعي أنه يتقدم في الديموقراطية والعلم، هذا ما يُسمع مِن الأحزاب والجماعات التي تفوز سنوياً في الانتخابات، وتوزع عليها حقائب الوزارات.

ثالثاً: إن الكُتب المختارة ليست منهجيّة، بل تُكرس الفرقة والحس الطائفيّ، فهي لرجال دين طائفة معينة، الوزارة من ملكيات أحد تنظيماتها، بل في هذه الطائفة من العلماء والمفكرين، مَن اختص في البحث العلمي، ولديه أفكار متقدمة، لكن هؤلاء أزيحوا أمام ما اختارته الوزارة من مناهج، قد تصلح للتثقيف الحزبي لا أكثر، كتب أكل عليها الزّمن وشَرب، ولا يرى الهالة حولها إلا مَن عجز عن رؤية غيرها، أو كان معانداً حزبياً.

رابعاً: هذه المناهج، مع عبارة في مستهل قرار الوزارة "القرآن منهجنا"، تشي بأنها دولة دينية، الشّعر مستعار من الإخوان المسلمين، لماذا توريط القرآن في ما تعبثون به في عقول الشبيبة؟ نعم هناك دراسات دينية خاصة، لا شأن للتعليم العالي والبحث العلميّ بها، هذا الشّعار "القرآن منهجنا" وضع لتمرير مشروع استدامة التّخلف، وتمرير هذا المنهج، بحجة القرآن هو المنهج، لو سألت أعضاء اللجنة والوزير: ماذا تقصد بالقرآن منهجاً، هل ستخضع العلم للدين؟ وهذه ورطة للدين، فيجب ألا يُقابل الدين العلم، بل هناك أفكار وفلسفات، يجب ألا تُطوع لهذا الشعار الذي وضع للتحايل على العلم والدّين نفسه.

ما جُعلت هذه الكتب كمناهج مفروضة على الجامعات، وفي تخصصات إنسانيّة، إلا لغاية مدمرة، يغلب على الظن لو كان مؤلفوها أحياءً لقالوا ما قاله الإمام مالك بن أنس (تـ: 179هـ) لخليفة عصره، وقد أراد جعل كتابه "المُوطأ" الوحيد مِن بين الكتب، ويعتمده في التعليم. قال مالك: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ أَقَاوِيلُ وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ وَعَمِلُوا بِهِ وَدَانُوا بِهِ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهُمْ، وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ، فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَارَ كُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ لِأَنْفُسِهِمْ" (ابن عبد البر، بيان العِلم وفضله).

المناهج المفروضة مناصفة بين الصّدرين: محمد باقر الصّدر (قتل: 1980)، ومحمَّد محمَّد صادق الصَّدر (قُتل: 1999). فالميليشيا التي تملك الوزارة تتخذ مِن الصّدرين سنداً لوجودها، وعندما تعليهما تقصد نفسها، لا تقصدهما، ولا الشعب العراقيّ، ولا يُستبعد أن الوزير، فرض وصادق، وقيل خريج الجامعة الإسلاميّة في بيروت، رأى أن يُقدم ذلك هدية لمالك الوزارة، فلا يعتقد رئيس الوزراء، أن الوزارة له يد عليها.

- المناهج في تخصصات العلوم الإسلاميّة:

من كتب محمد صادق الصّدر: "منة المنان للدفاع عن القرآن"، "فقه الأخلاق"، "ما وراء الفقه"، "الأسرة في الإسلام"، "الطائفية في نظر الإسلام".

مِن كتب محمد باقر الصّدر: "دروس في علم الأصول"، "المدرسة الإسلاميّة أو الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة".

- العلوم الإدارية والاقتصادية، كتب محمد باقر الصّدر: "اقتصادنا"(كتاب منهجي للدراسات الأولى والعليا وأقسام الاقتصاد في مراحل الدكتوراه والماجستير). المدرسة الإسلامية أو الإنسان المعاصر.

- العلوم السياسية: كتاب محمد محمد صادق الصدر: "الطائفية في نظر الإسلام".

تخصصات القانون: "نظريات إسلاميّة في إعلان حقوق الإنسان"، و"الأُسرة في الإسلام" لمحمد محمد صادق الصّدر.

- تخصصات الآداب ومنها الفلسفة: "المدرسة الإسلاميّة أو الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة"، كتاب "فلسفتنا، وعلم الأصول" لمحمد باقر الصّدر.

التربية للعلوم الإنسانيّة: كتاب "الأسرة في الإسلام" لمحمد محمد صادق الصّدر.

قلتُ لا نظن، إنَّ عفة محمد باقر الصّدر، وعفوية محمد محمد صادق الصّدر، أنهما سيوافقان على هذا المشروع الذي يسلب من التعليم العالي مهمته، فهذه الكتب ليست كتبت مناهج، ممكن تكون كتب ثقافة عامة، وقلنا: حتّى الحوزات الدينية لا تجعلها مصادر في مناهجها، الغرض على ما يبدو انتهازية، من قبل اللجنة والوزارة، لمالك الوزارة، وهو ضرب من ضروب أسلمة التعليم، وبشكل مشوّه، ففئات وطوائف غير طائفة مالكي الوزارة في حلٍّ من هذه المناهج. أقول: إلى أين أنتم ذاهبون بهذه البلاد وبشعبها؟!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد