قابلية الأمم للتغيير موضوع قديم كان وسيبقى محلّ سجال. هل هناك أمم تحمل في جيناتها مثل هذه القابلية وأمم أخرى ميّالة للانغلاق على ذاتها والجمود على أحوالها، رغم أن العالم من حولها يتغير ويلج آفاقاً جديدة غير مسبوقة؟ لسنا في حاجة للتذكير بالقول: «بقاء الحال من المُحال»، وهو قول بمثابة قانون من قوانين تطوّر المجتمعات، لكننا، رغم ذلك، نجد من لا يزال يرى ضرورة إغلاق النوافذ بوجه الرياح، خشية أن تحرك ما هو جامد، بحجة أن تلك الرياح قد تكون فاسدة.
التحولات الجذرية التي شهدها ويشهدها العالم، ليست وليدة ما نعيشه اليوم فقط، أو وليدة القرن الماضي فقط، وإنما تعود إلى ما قبل ذلك، على الأقل منذ بدء ما تعرف بالثورة الصناعية، ولكن وتائر هذه التحولات في ازدياد مطرد، ومع هذه التحولات بات متعذراً الفرار من حتمية التغيير، سواء كانت الأمة المعنية راضية به أو مُكرهة عليه.
هذا يقود إلى السؤال: لماذا تضع أي أمة نفسها في خانة المُكرهة على التغيير، بدل أن تعدّ العدة له بما يلائم ظروفها وخصوصياتها الثقافية والمجتمعية؟ ونحن هنا لا نتحدث عن «توفيقية» زائفة تسعى إلى جمع النقائض في سلة واحدة، فتوفيقية مثل هذه لن تقود إلى التغيير الضروري الذي تنشده طلائع أي أمة تريد التقدّم والرقي وبلوغ مراتب أعلى في الحضارة، فالمسألة قبل أن تكون توفيقاً مفتعلاً وغير مثمر، بل إنه معيق، إنما تكمن في الغربلة المعرفية الواعية للموروث من الماضي والجديد، الناشئ في جوانب كثيرة منه، من التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى، التي بلغت شأوا أعلى من التقدّم.
نحن العرب نموذج حي للأمم التي تواجه هذه المعضلة، والحائرة، حتى اللحظة، في اختيار سبل حلها، وحتى اللحظة أيضاً نبدو عاجزين عن الاستفادة من تجارب أمم شرقية مثلنا، كما الصين واليابان، اللتين رغم اختلاف طبيعة النظام الاجتماعي – السياسي فيهما، تجاوزتا الذي ما زلنا نعدّه نحن تناقضاً بين إرثنا والجديد الناشئ من حولنا.
يقف غوستاف لوبون في كتابه «مقدّمة الحضارات الأولى» الصادر عن دار الرافدين عند هذه الثنائية، ملاحظاً أنه إذا كان التغيير روح التقدم، فإن الثبات على حال ما لا يقلّ عنه لزوماً، «ومن أشدّ المستعصبات إيجاد توازن عادل بين هاتين الصفتين، فالنادر من الشعوب من نجح في تحقيق هذا التوازن، وأندر منه من احتفظ به، لأن الثبات إذا عظم في وقتٍ ما وقف الشعب في تطوّره إلى التقدّم، وإذا اشتدت الحركة فقد الشعب كل تماسك وتبعثر»، كأن غوستاف يحذر هنا من القفزات غير المدروسة.