: آخر تحديث

دولة ونزوح

6
7
8

الحديث في السياسة العربية هذه الأيام يقود المرء إلى فلسطين، وهذا هو الحال منذ خمسة وسبعين عاماً، أي منذ العام 1948، الذي يسميه العرب (عام النكبة)، حيث أُجبر مئات آلاف الفلسطينيين على النزوح إلى الدول المجاورة أو داخل فلسطين، ومن نزح إلى الخارج تعرض إلى النزوح أكثر من مرة، ففي كل مرة كانت تنشب فيها حروب داخلية، كان الفلسطيني يترك بيته أو خيمته ويتجه إلى مكان أكثر أمناً.

وقد شهدنا ذلك في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، حيث مُسحت فيها مخيمات مثل مخيم تل الزعتر، وتعرّض سكان مخيم نهر البارد إلى النزوح على أثر حرب طاحنة بين الجيش اللبناني ومسلحين من (فتح الإسلام)، انتهت بتدمير المخيم عن بكرة أبيه.

وحدث أيضاً في العام 1982، حين اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان ووصل إلى بيروت، وبعد حرب دامية خرج المقاتلون الفلسطينيون ومعهم زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، خرجوا إلى بقاع عدة، منها سوريا واليمن وتونس والجزائر، وبعد هذا الخروج حدثت مذبحة صبرا وشاتيلا، حيث اضطر من بقي حياً للنزوح إلى جهة آمنة.

وتغير النظام في العراق، وكان الفلسطينيون أحد ضحاياه، فنزحوا إلى دول مجاورة وهاجر بعضهم إلى أوروبا. وبعد اندلاع المعارك في العام 2010، وما تلاه من أعوام في إطار ما سُمّي ب(الربيع العربي) نزح الفلسطينيون من سوريا وليبيا واليمن ومصر، إلى بلدان قريبة أو بعيدة، وأصبحوا لاجئين للمرة الثالثة أو الرابعة.

وبالعودة إلى العام 1948، فقد نزح بعض الفلسطينيين إلى الداخل، إلى الضفة الغربية وغزة، وعاشوا في مخيمات ترعاها وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أي كانوا لاجئين في وطنهم.

قلنا في البداية إن أي حديث في السياسة العربية يقودنا إلى فلسطين، ومنذ أربعة أشهر، يقودنا الحديث إلى قطاع غزة على وجه الدقة، حيث بدأت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي معارك طاحنة بين المقاتلين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، على أثر هجوم شنته حركة حماس على مستوطنات قريبة من قطاع غزة وأسرت مجموعة من الجنود الإسرائيليين إضافة إلى مدنيين، وهي المرة الأولى التي يقوم فيها الفلسطينيون بالهجوم ومباغتة الجيش الإسرائيلي.

ولن نتحدث في السيناريوهات الخبيثة والحميدة، ولا في الشائعات الكثيرة، بشأن سهولة سيطرة المقاتلين الفلسطينيين على المواقع الإسرائيلية العسكرية، وما يعنينا هنا هو أن المعركة التي تدور رحاها الآن في قطاع غزة، تعيد ذكرى النكبة من جديد، ولكن بشكل أقسى وأكثر خطورة وأشد دموية.

الفلسطينيون الذين يقطنون في شمال القطاع نزحوا إلى وسطه، ثم إلى جنوبه، ثم إلى البحر، أي يتجمعون الآن في مدينة رفح، وهي المدينة التي كان يقطنها قبل المعارك 120 ألف نسمة، والآن يقطنها مليون و200 ألف نسمة، وهناك خشية من أن يتعرّضوا للنزوح إلى سيناء، حيث يقول البعض إن المخيمات جاهزة لاستقبالهم.

وعلى الرغم من الرفض المصري والعربي للجوء الغزيين إلى سيناء، أو مدينة رفح المصرية، إلا أن هناك خشية من هجوم برّي، تقول مصادر سياسية إسرائيلية إنه سيبدأ في شهر رمضان، ما يعني أن الفلسطيني الذي يعيش في قطاع غزة سيتعرض للنزوح للمرة الرابعة، والفلسطيني الذي نزح من شمال فلسطين في العام 1948 إلى قطاع غزة، سيضطر للنزوح للمرة الخامسة، إذا بقي حياً. وهذا الفلسطيني المقيم أو النازح إلى غزة، فقد بيته وأصبح لاجئاً في وطنه، بل لديه إحساس باللجوء المزمن.

إن هذا المشهد القديم المتجدّد خلق خشية من نوع ما لدى الفلسطينيين الذين يشعرون ببعض الأمان في أماكن إقاماتهم، بأنهم يعيشون حياة مؤقتة، خاصة أنهم يرون أقرباءهم في قطاع غزة أو في دول الشتات يتعرضون للنزوح بين فترة وأخرى، وهذه الحالة من عدم الاستقرار تعيد إليهم جوهر القضية الفلسطينية، وقضية اللاجئين، وإقامة دولة، وعاصمة هذه الدولة.

إن حديث الفلسطينيين في السياسة يقود إلى فلسطين، وهذه بديهية لكنها مع رعب النزوح وعدم الاستقرار تجعل الفلسطينيين خارج فلسطين وداخل أراضي السلطة، يبحثون في طرق تحافظ على الحد الأدنى من الحياة بنسبة ولو ضئيلة من الاطمئنان، وهذا يحدث في إطار حب البقاء، ومبررات أخرى تتعلق بضمان حياة مختلفة لأبنائهم، يتوفر فيها التعليم والعلاج وتحقيق الطموحات الفردية، خاصة لأصحاب المواهب.

إن حديث الفلسطينيين في السياسة أيضاً يقودهم إلى خيبات كثيرة، تتعلق بأداء قيادات التنظيمات، وشفافية العمل الوطني، وإلى تغليب المصالح الذاتية على المصلحة الوطنية، بل يقود إلى حديث عن السلطة الفلسطينية الضائعة بين كونها سلطة خدماتية إدارية، وطموحها لتصبح دولة. والخيبة الأكبر التي يعيشها الفلسطينيون حين يتحدثون عن دولة ويكتشفون أنها تتحول شيئاً فشيئاً إلى كيان ضبابي، إذ أصبح مصطلح دولة أشبه بشعار فارغ من أي محتوى، فزعماء العالم يتحدثون عن دولة فلسطينية من دون الحديث عن السيادة والحدود وكل معايير الدولة، ويقول الفلسطينيون إن أي حديث عن الدولة في هذا الظرف بالذات هو حديث لا يسمن ولا يغني من جوع، ويتخيلون، من باب التندّر، أن العالم سيخلق دولة ينزح إليها الفلسطينيون من فلسطين، وهكذا نعود إلى الحديث عن النزوح.

[email protected]


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.