: آخر تحديث

خواطر حلزونية

12
13
11

النداء الأخير إلى سيشيل
كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً، عندما كنت أشرب القهوة في صالة "مرحبا" في مطار دبي الدولي، وأشاهد سباق الخيل على أحد المحطات الرياضية، بانتظار موعد إقلاع الطائرة إلى جزر سيشيل والذي كان محدداً في الساعة 2:40 دقيقة.  غاب عن ذهني تماماً ضرورة التواجد "في بوابة الصعود" خلال الموعد المخصص "للصعود إلى الطائرة" والذي يفترض دوماً أن يكون ثلاثين دقيقة على أقل تقدير من موعد الإقلاع. نظرت إلى تذكرة الطيران في تلك اللحظة، وأدركت أنه على الجري بأسرع ما يمكن للحاق قبل أن يمنعوني من الصعود.. اعتقدت أنني في منطقة الراحة في البداية، على اعتبار أنني أعرف جيداً مبنى المطار، ثم لاحظت أنني لم أحسب الوقت بشكل مناسب قياساً مع "مدرج الطائرات"، فأنا كنت في "الترمينال B" وكان على أن أركض بسرعة كبيرة إلى "الترمنيال C"، وليس هذا فقط، بوابة الصعود هي C1 أي آخر بوابة ضمن "الترمينال C". بعد مزاحمتي واصطدامي بالمسافرين، وصلت تماماً الساعة 2:20 حيث أعلنوا "النداء الأخير إلى سيشيل"، عندما وصلت كان الجميع قد أصبح في الطائرة. لم يكن يوجد أحد سواي مع ستة من أمن بوابات الطائرة.

- سيدة زينه؟.. أين كنت؟.. اتصلنا بك... أرسلنا لك رسالة نصية!

- أنا آسفة، لم أسمع.. لم أقرأ شيئاً.

- بسرعة إلى ممر الطائرة.

وأنا أركض.. اثنان من مفتشي الطائرة على "التوكي واكي":

- وصلت الراكبة الأخيرة.. وصلت الراكبة الأخيرة.. ثم تحدثا معي: حسناً: لا بأس يمكنك أن تتنفسي. دقيقتان لإغلاق باب الطائرة.

صعدت إلى الطائرة.. أنظار المسافرين تتراشق نحوي.. المضيفات يحاولن تهدئتي: أحسنت لقد فعلتها!.. أحسنت.. لقد وصلت!

وأنا في خليط من فوضى المشاعر بين فرح وقلق ودهشة.. أحاول أن أشرح لهم في عقلي أنني متواجدة أصلاً في المطار.. لم تفتني الطائرة!

أقلعنا. رؤية ألوان الغسق، ثم الفجر من شباك الطائرة أنساني كل شي...اكتسحنا الغيوم.. فأطلّت الجنة.. الجزيرة كانت مكتسية اللون الأخضر.. نسيت كل ما حصل.. لم أتذكر سوى شيء واحد.. موعد درس الخيل الذي كان يفترض أن يكون الأسبوع اللاحق.

نافلني حاضراً في الاسطبل
حال عودتي إلى دبي، عدت لمتابعة دروسي في الخيل، كان يوم السادس عشر من شباط (فبراير). عادة ما يدور حديث بيني وبين مدربي في الخيل عن التاريخ عندما نخرج سوياً.. خاصةً تاريخ الاتحاد السوفيتي. هو من قيرغيزستان، وأنا باحثة بالشأن الأوراسي، ولدينا اهتمامات ثقافية مشتركة في تلك المنطقة.. أخبرته: هل سمعت عن المعارض الروسي اليكسي نافلني؟ فقاطعني مباشرة: لقد مات.. قتلوه!

كنت قد سمعت الخبر قبل دقائق لكني لم أصدقه، وتقصدت الحديث عنه أمامه لعله يعرف شيئاً. يبدو أنه كان متأكداً من خبر مقتله.

زينه: خسارة! كان معارضاً شجاعاً!

المدرب: كان لديه بعض الأحلام في رأسه، لم يكن للرئيس بوتين أن يسمح له بتخطّيه.

زينه: نعم، ولكن هذا لا ينفي شجاعته.

المدرب: هل تعرفين قصة الرئيس القرغيزي صدير جباروف؟ لقد كان معارضاً لزعيم قيرغيزستان ألماظ اتامبييف الذي سبقه والذي كان دكتاتورياً، سجن لست سنوات، ثم خرجت مظاهرات عارمة ضد الرئيس السابق، وتمكنوا من الإطاحة به، وأفرجوا عن السجناء، فأصبح المعارض جباروف رئيسا في اليوم التالي.

عندما انتهى من قصته، أدركت أن نافلني كان لديه طموحات مشابهة، وكان مدركاَ أنه أمام خيارين إما الموت أو الرئاسة مستوحياً شجاعته من قصة الرئيس القرغيزي. يبدو أن غرور السلطة أغراه فدفع حياته ثمناً.

الهروب الى حتّا
لقد تراكم العمل البحثي.. فمن يدير شؤون أوراسيا يدرك أنه لن يستطيع أن يغمض عينيه. قررت أخذ إجازة في منتصف الأسبوع لأهرب فيها إلى الحياة البرية. حتّا كانت الخيار الأنسب، فهي مجهزة بكل ما يلزم لخوض هذه المغامرة ابتداء من الخيم وانتهاء بمغامرات التسلق والسير، وبالطبع كان لا بد من وقفة خلابة في أعلى نقطة فيها للاستمتاع برؤية سد حتّا الكبير. اصطحبت كتابي معي الذي يتحدث عن الفكر الصوفي في "البحث عن السعادة" وكنت قد وصلت في القراءة الى القسم الذي يتحدث عن الرضا.. لدى الصوفيين الرضا هو من أعلى المقامات التي يصلها الإنسان.. والرضا هي رحلة بحد ذاتها تحتاج إلى مشقة وركائزها الصبر والتمكين.. وهذين العنصرين بدورهما يحتاجان إلى الإيمان واليقين.. والإيمان واليقين لا يأتيان فقط من القلب أو العقل بل من "الخيال"!  والرضا بالمناسبة مختلف تماماً عن القناعة. القناعة فيها جانب سلبي لأنها تعني الخنوع والاستسلام والاكتفاء بالمعطيات التي وضع الإنسان نفسه بها، بينما الرضا ينطوي على السعي لتحقيق ما يطمح له الإنسان ثم التسليم لله سبحانه وتعالى. الفرق بينهما تماماً كالفرق بين التوكّل والتواكل. التوكل هو العمل لتغيير الأمور والتسليم بالله، بينما التواكل هو الكسل وانتظار التغيير من تلقاء نفسه. لقد كانت حتّا أشبه برحلة صوفية قصيرة وجرعة مناسبة للسعي والتأمل.

حفلة أندريه ريو
تتالت النشاطات الترفيهية.. كنا قد حجزنا أنا وأصدقائي تذاكرنا في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 لحضور حفلة الموسيقار الشهير وعازف الكمان أندريه ريو التي أقيمت في أرينا أبوظبي في شهر آذار (مارس) الماضي. وللحظ، كانت الأحوال الجوية ماطرة للغاية، لدرجة أن الهيئات الأمنية أرسلت رسائل تحذيرية بضرورة توخي الحذر عند الخروج من المنزل لتجنب أي أضرار. إثر ذلك، قررنا أنا واصدقائي بالبقاء في المنازل وعدم الذهاب، وبدأنا على الفور الاتصالات اللازمة لبحث عملية إلغاء التذاكر، ولكن فقط خلال دقائق، تغير الجو، وبدأت الغيوم تنقشع والأمطار توقفت. أحد أصدقائي كان يراقب الجو وأخبرنا أن المنخفض الجوي مرّ من أبوظبي وبدأ يتحول نحو المناطق الشرقية. في ظل كل هذا، تعقّدت عملية استرداد أموال التذاكر لأسباب تتعلق بإدارة ومنظمي الحفل، فعادت فكرة حضور الحفل بصفتها أهون الشرور. توكلنا على الله وقلنا هيا بنا.. وسبحان الله، كل شي تيسر. توقف المطر طول الطريق.. وصلنا خلال ساعة.. الأجواء كانت ساحرة.. أكثر من اثني عشر ألف متفرج في المسرح.. الفرقة أبدعت.. لقد أخذونا إلى عوالم متنوعة، زرنا اليونان وفرنسا وإيطاليا وأمريكا.. لقد رقصنا التانغو والفالس والروك أن رول ونحن في المكان.. كانت سهرة لا تنسى وحلم يتمنى الكثيرين تحقيقه.. وكأنّ القدرة الإلهية وكل ما في الكون تآمر لأجلنا عندما سعينا لحضور الحفل.

هل هلالك يا رمضان
كانت سهرة أندريه ريو أفضل استقبال لرمضان، فاليوم التالي على الفور أعلن عن رؤية هلال رمضان وأن الاثنين سيكون أول أيام الشهر الفضيل.. الفوانيس انتشرت في كل ركن من المنزل لتزيينه.. ترتيبات الإفطار العائلي لليوم الأول بدأت.. لكن مرت العشرة الأوائل بسرعة البرق.. لا جديد.. الأخبار تعيسة في غزة.. "الإرهاب" يضرب من جديد شمال العالم.. بهجة رمضان ناقصة.. مرّت العشرة الثانية بحماس أكبر تحضيراً واستعداداً للسفر إلى مكة للقيام بعمرة.. قبل الموعد المحدد للسفر بساعات، أبُلغت أن تأشيرتي السياحية التي بموجبها كنت أفكر بالذهاب منتهية الصلاحية، وأنها تسمح بالزيارة لمرة واحدة فقط وليس لعدة مرات.. عاد الإحباط لكن لم يزدني سوى إصراراً بنيل أجر العشر الأواخر. لقد كنت مدركة للغاية أن الانكسارات يليها انتصارات. انتهى رمضان، لقد اختفى بسرعة فائقة، لدرجة أحسست وكأنه كائن حي، مثقل بحوائج البشر، ما ان انتهى حتى رحل ليرتاح من الصائمين. يبقى فقط موعد الحصاد.. فمن زرع في رمضان جيداً لا بد أن ينال محصولاً طيباً، وكل شيء يحتاج إلى وقت للنضوج حتى تقطف الثمار، بما ذلك الدعاء، فأرجو أن يكون الله قد وفق الجميع في طاعته.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف