الحكومات والشركات والجامعات ومراكز الأبحاث العلمية والصناعية والمؤسسات المالية التي لا تواكب تطورات الذكاء الاصطناعي تضع نفسها خارج المنافسة وتخسر رهانات المستقبل. لقد أصبحت هذه حقيقة راسخة، كما بيّنت نقاشات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، والدورات الأخيرة لمنتدى الرياض الاقتصادي. وهي كانت محوراً رئيسياً في القمة العالمية للحكومات هذا الأسبوع في دبي، التي جمعت بعض كبار المخططين الاستراتيجيين وصنّاع القرار في العالم. وليست إدارة الموارد وحماية البيئة لتحقيق الاستدامة خارج هذه الحلقة، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي تحويل مسارات التنمية في اتجاهات متعددة ومتضاربة، من الحفاظ على توازن الموارد الطبيعية إلى استنزافها.
ليس الذكاء الاصطناعي اكتشافاً جديداً بالكامل، بل هو تطوير ثوري لعمل أول آلة حاسبة وأول جهاز كمبيوتر. لكن في حين اقتصر عمل هذه على تنفيذ عمليات محدّدة، محصورة في حسابات الأرقام وجمع البيانات وتنسيقها، وفق برنامج معيّن، تقدّم الذكاء الاصطناعي خطوات سريعة في ربط البيانات من مصادر مختلفة ومقارنتها وتحليلها، مع محاولة تمكينها من محاكاة طريقة عمل العقل البشري في اتخاذ القرارات. لكن هذا يبقى محكوماً بتوافر البيانات الصحيحة الموثوقة، إذ إن برامج الذكاء الاصطناعي لا تصنع البيانات والمعلومات بل تجمع ما هو متوافر منها.
لكن هذا لا يقتصر على جمع ما تيسّر من البيانات، بل يتعدى ذلك إلى تكوين البيانات في المقام الأول، على الأرض وفي المختبرات ومراكز الأبحاث. والأمثلة على الثغرات في تكوين البيانات وموثوقيتها في مجال البيئة والطبيعة كثيرة، من قياس نوعية الهواء والتراب والماء والمحيطات، وترسّبات الأسمدة والمبيدات السامّة في المنتجات الغذائية والغابات، إلى المعلومات المرتبطة بتغيُّر المناخ. وافتقار معظم البلدان العربية إلى بيانات دقيقة في هذه المجالات يعود إلى عدم تكوينها أساساً، على الأرض وفي المختبر، والقليل الموجود منها يخضع لقيود تحدُّ من نشره.
من هنا، تبقى نتائج استخدام الذكاء الاصطناعي في تخطيط برامج إدارة الموارد ورعاية البيئة واستدامة التنمية عامةً مرهونة بدقّة البيانات المتوافرة. عند ذلك فقط يستطيع الذكاء الاصطناعي تسريع إنجاز المهام بالترافق مع دِقّة النتائج. فجمع صور الأقمار الاصطناعية لمساحات شاسعة وتحليلها، بعد ربطها ببيانات يجري تكوينها على الأرض من خلال محطات رصد ثابتة وعمل في الميدان والمختبر، يوفّر أساساً صلباً لمعرفة وضع المسطحات المائية والغطاء النباتي والمحيطات واستخدامات الأراضي، بما فيها الزراعة والصناعة والسّكَن وشبكات النقل والتوزُّع السكاني عامة. ولولا التقنيات المتقدمة لصور الأقمار الاصطناعية وأنظمة التحليل الرقمية، لما كان ممكناً تحقيق مبادرات طموحة مثل «السعودية الخضراء»، التي تشمل تحويل 30 في المائة من مساحة البلاد إلى محميات بحلول 2030، بما يصل إلى 700 ألف كيلومتر مربع. فوضع البرامج التنفيذية لإدارة أراضٍ تتجاوز ضعفي مساحة ألمانيا لا يمكن إنجازه بالوسائل التقليدية.
وتساهم قدرات الذكاء الاصطناعي في دراسة الآثار البيئية المحتملة لأي مشروع واقتراح بدائل ينتج عنها قدْر أقلّ من المخاطر، كما تشمل مراقبة الانبعاثات وضبطها للتحكُّم بالتغيُّر المناخي. وقد تكون إدارة إنتاج وتوزيع الطاقة والمياه وتنظيم السَير على الطرقات من أهم مجالات استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الكفاءة والحدّ من الهدر والانبعاثات.
«الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا البيانات» كان موضوع تقرير قدّمَته «المجموعة الدولية للاستشارات» في القمة العالمية للحكومات. وفي حين أكّد التقرير أن المتخلّفين عن ركب الذكاء الاصطناعي سيخرجون من حلبة المنافسة، ليس في الحوكمة فقط بل في مجالات أخرى بينها الصحة والتعليم والتخطيط المديني وأسواق المال والطاقة والمياه والتصدي لتغيُّر المناخ، وجد أن المنطقة العربية حققت تطوراً ملحوظاً على طريق التحوُّل الرقمي، مع تفاوت كبير بين الدول. فقد ارتفعت نسبة مستخدمي الإنترنت من 29 إلى 70 في المائة في 10 أعوام بين 2012 و2022، ما أوجد أساساً صالحاً لإدخال الذكاء الاصطناعي في الخدمات التي يقدمها القطاعان العام والخاص. وبيّن التقرير قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز النمو الاقتصادي في البلدان العربية بما يفوق 320 مليار دولار إضافي بحلول 2030.
وعرَض التقرير «رؤية السعودية 2030» بوصفها مثالاً على الالتزام الوطني بالتحديث والتوسُّع في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز الابتكار والتنمية ورعاية البيئة. كما عدّ إنشاء وزارة مختصة بالذكاء الاصطناعي في الإمارات، و«مركز قطر للذكاء الاصطناعي» و«أكاديمية الذكاء الاصطناعي» في البحرين، نماذج عن التحوُّل في دول مجلس التعاون الخليجي. وأطلقت الأردن ومصر والمغرب وتونس برامج واستراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، شملت التعليم والأبحاث والصحة والاستدامة، إلى جانب الخدمات الحكومية.
يبقى أن نجاح مراكز التدريب والمبادرات والأكاديميات في دفع التحوُّل نحو مواكبة الذكاء الاصطناعي يتوقف على نجاحها في بناء قدرات ومهارات وطنية تقود هذا التحوُّل، كما في دعم البحث العلمي لتكوين بيانات دقيقة تكون أساساً لعمل الذكاء الاصطناعي، لئلا نتحوَّل إلى مستهلكين لمعارف وتكنولوجيات جاهزة تتحكم بها أطراف أخرى وتوجهها وفق مصالحها، خاصة أن عدداً محدوداً من الشركات يحاول احتكار هذا القطاع، ما يهدد بتكوين سلطة عالمية خفية تتحكم بمصير الإنسانية. كما أن الاعتماد المفرط على أنظمة الذكاء الاصطناعي الجاهزة قد يؤدي إلى الاستسهال والبلادة والتوقف عن طلب المعرفة والعلم، بينما المطلوب مزيد من التعلُّم والأبحاث والابتكار للتحكم بهذه الأنظمة.
في غياب أسس علمية وضوابط أخلاقية لاستخدام تسهيلات الذكاء الاصطناعي، فقد تتحوّل ميزته في جمع البيانات وربطها وتحليلها بسرعة خارقة إلى تسريع اكتشاف الموارد المحدودة لاستنزافها وجني أرباح أكبر، أو تحوير البيانات الأساسية للتلاعب في النتائج وفق مصالح المبرمجين. لكن بناء الأرضية العلمية والبشرية الصلبة للتقنية الجديدة يفتح آفاقاً لا حدود لها، مثل استخدام الصور الفضائية والذكاء الاصطناعي لتسريع العمل البيئي والمناخي وتدابير الاستدامة، من إدارة الموارد الطبيعية إلى النمذجة والتوقعات المناخية.
سُئلتُ في قمة الحكومات عما إذا كان من الأفضل تحويل سلطة القرارات بالكامل إلى برامج الذكاء الاصطناعي، وذلك لضمان عدم التحيُّز ومنع تغليب المصلحة الخاصة على قرارات المسؤولين الحكوميين. أجبت أن هذه الفرضية تبقى نظرية، لأن برامج الذكاء الاصطناعي لا تقع تحت طائلة المحاسبة، ولها محدودياتها القائمة على بيانات وضوابط وبرمجيات صنعها الإنسان. وإذا كان استخدام الذكاء الاصطناعي ضرورياً لمواكبة العصر، فمسؤولية القرارات الكبرى في السياسات التنموية تبقى على عاتق البشر، والمطلوب تعزيز المساءلة والمحاسبة في الإدارة العامة لا إضعافها.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية