الفاعل مبني للمجهول.. مرفوع بضمة عالمية فوق قواعد اللغة. هكذا أصبحت صور القرية الكونية التي بشرتنا بكل ما هو أقرب. لكنها لم تخبرنا عن الأغرب.. (موتٌ حيّ في بثٍ مباشر) والعالم النخبوي المثقف مشغول بالتغني بحضارته الإنسانية.. مُغيّب.. أخرس. فالشظايا القريبة تستهدف الحناجر.. لن تجد الكلام.. قالوا قديماً إنه من فضة لكنه اليوم من عقاب.. والسكوت ثواب.. والحياد هو الذهب. قريتنا اليوم هي.. قرية العجب.
في ستينات القرن الماضي استشرف الكاتب الكندي (مارشال ماكلوهان) قرية الكون ووصفها في كتابه (الحرب والسلم في القرية العالمية) وصفها بكونها القرية التي ستجمع البشرية وستقرب المسافات، لكنها في الوقت نفسه ستُحيي روح العنصرية خاصة لدى الأقليات. ويوماً بعد يوم يزداد الاقتناع بنظرياته وبصدق حدسه ودقة استشرافه للمستقبل. ونسأل هل ما نراه اليوم عودة إلى جاهلية العنصرية؟ ولكن كيف تُفهم الحروب العنصرية؟ مع السؤال نبحر عبر التاريخ علّنا نفهم الحاضر وشيئاً من المستقبل. عبر التاريخ وقعت أكثر الدول في فخ الحروب العنصرية. ومن أبرزها وأشهرها حرب أمريكا على الهنود الحمر.. والإبادة الجماعية لأهل الأرض الأصليين.
كانت مذبحة الهنود الحمر جريمة طويلة الأمد بدأت بعد اكتشاف البحارة الإسبان القارة الجديدة في القرن السادس عشر، وتم تنفيذها بشكل همجي من قبل القوى الاستعمارية الأوروبية التي تملك من السلاح والعتاد ما لا يملكه أهل الأرض الأصليون. مذابح لم تنقل ببث مباشر (كما يحدث اليوم) لكن ما كتب فيها وعنها ترك للعالم عاراً تخجل منه الإنسانية.. إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا الكل اجتمع على هؤلاء المساكين وهدفهم إبادة الشعب والاستحواذ على الأرض. وفي وقت لاحق خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لعب الأمريكيون في أمريكا الشمالية دوراً رئيسياً في أشهر المذابح التي ارتكبت ضد الهنود الحمر، وذلك بهدف دفعهم إلى الهجرة القسرية. تاريخ طويل من عذابات شعب حاول بكل الطرق البقاء سيداً على أرضه.. جرائم وُثقت في كتب التاريخ ومعاناة استمرت أعواماً طويلة. منها حرب عامي 1675-1676 التي أسفرت عن تدمير نصف مدن (ماساتشوستس). واستمرت الحروب الأمريكية والهجوم على الهنود حتى عام 1900، قتل خلالها الأمريكيون نحو 100 مليون من الهنود. هذه الحروب الطويلة إنما تدل على أن الشعب رغم بدائية أسلحته وضعف قوته لم يستسلم بسهولة لتلك الحرب العنصرية الشعواء التي كرست المحتل سيداً على أرض غيره. أمريكا الدولة الجديدة القوية ازداد نفوذها بعد حروب أوروبا العالمية، ورغم كل تلك الجرائم وغيرها لم تتم أبداً مساءلتها. أما أشهر حركات العزل العنصري في أمريكا فكانت ضد العنصر الإفريقي في عام 1890. وتطورت هذه الحركة إلى إصدار قانون (جيم كرو) للحرمان والفصل العنصري لذوي الأصول الإفريقية، والذين امتثلوا له خوفاً من أن يقعوا ضحية للعنف العرقي. ولم يسلم اليابانيون (العرق الأصفر) من العنصرية الأمريكية قبل الحرب العالمية الأولى، بعد أن شعر سكان كاليفورنيا بالرعب غداة انتصار الجيش الإمبراطوري الياباني على الروس في 11 أكتوبر عام 1906. فقامت وزارة التعليم في ولاية كاليفورنيا بالتفريق بين المواطنين الأمريكيين واليابانيين. واستمر الأمر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شعر البنتاغون بالخطر القادم الذي يهدد الأمن القومي الأمريكي من العدوان الياباني. وهكذا شن الجيش الأمريكي بداية حرب جديدة ضد اليابان سنة 1942. وقاموا بتجنيد مئات آلاف الأمريكيين ضد اليابان فتمكنت الولايات المتحدة من استعادة جزر المحيط الهادئ وقتل اليابانيين بصورة وحشية، واستمر العداء ضد (العرق الأصفر) حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
هذا بعض من تاريخ العنصرية في أمريكا. لكننا اليوم وفي بث مباشر نرى أن التاريخ يعيد نفسه.. بألوان عصرية مُضللة فهي ليست بصدق زمن الأسود والأبيض.. هي التزييف المتقن لطمس الحقائق وإثارة نعرة العنصرية ولو بطرق احتيالية لتبرير حرب إجرامية خلطت الحابل بالنابل.. سرقوا الحقيقة الموثقة في المراجع التاريخية. أصبح العرب أعداء السامية. وتم توظيف نفس الأسطوانة المشروخة، أسطوانة العداء للسامية لتجعلها شرارة نار عنصرية تشعلها متى تشاء وتوظفها لخدمة الحركة الصهيونية.
لكن اليوم ليس كالأمس.. هنا لسنا قارة جديدة كبيرة وسكانها قلة.. نحن أمام بقعة صغيرة مكتظة بالسكان المتمسكين بالأرض. اليوم لا يشبه الأمس لا شعباً ولا جغرافياً ولا حتى عنصرياً.. (فالعرب هم الساميون) فكيف يكونوا أعداءً لأصلهم؟ سقطت كل حججهم البلهاء.. لكن البث الحيّ على الشاشة.. يتجاهل الحقائق.. يُصّر على حق الظالم في الدفاع عن نفسه ضد المظلوم.. من قلب الصورة وعكس الحقيقة؟ لا تسأل.. القلة التي تعلم لا تتكلم...
على صفحات التواصل الاجتماعي تتحرك مشاعر الناس أمام قلب أحمر يضغطون عليه بكل قواهم فلا تفهم هل هم مع أو ضد؟ ولا تفهم كيف عاد التاريخ بحضارة البث المباشر.. حضارة بلا مشاعر؟ حضارة حولت البث الحيّ.. إلى بثٍ ميت؟
وكيف انقلبت قواعد اللغة.. المبتدأ فيها صمت.. والخبر فيها صمت.. والمتابع هو الضمير الغائب.