: آخر تحديث

الحرب الاقتصادية على الطريقة الأميركية

27
33
29

لنفترض أن شركة في بيرو تريد القيام بأعمال مع شركة في ماليزيا. لا ينبغي أن يكون إبرام اتفاق صعباً على الشركتين. ذلك أن إرسال الأموال عبر الحدود الوطنية أمر بسيط في شكل عام، وكذلك نقل كميات كبيرة من البيانات بين الدول.

لكن ثمة مشكلة: سواء أدركت الشركتان الأمر أم لم تفعلا، من شبه المؤكد أن معاملاتهما المتعلقة بالمعلومات والبيانات المالية ستكون غير مباشرة، ومن المحتمل أن تمر عبر الولايات المتحدة أو مؤسسات تسيطر عليها الحكومة الأميركية في شكل كبير. وفي هذه الحال، سيكون لدى واشنطن القدرة على مراقبة التبادل، وإذا رغبت في ذلك، إيقافه في مساراتها – وبعبارة أخرى، ستمنع الشركة البيروفية والشركة الماليزية من التعامل مع بعضهما بعضاً. في الواقع، يمكن للولايات المتحدة منع عديد من الشركات البيروفية والماليزية من تبادل البضائع في شكل عام، مما يؤدي إلى عزل البلدين إلى حد كبير عن الاقتصاد الدولي.

إن بعضاً مما يدعم هذه السلطة معروف جيداً: كثير من التجارة العالمية تجرى بالدولار. الدولار هو واحد من العملات القليلة التي ستقبلها المصارف الكبرى كلها تقريباً، وهو بالتأكيد العملة الأكثر استخداماً. نتيجة لذلك، يكون الدولار هو العملة التي يجب على عديد من الشركات استخدامها إذا كانت تريد القيام بأعمال دولية. لا سوق حقيقية يمكن فيها للشركة البيروفية أن تستبدل بالسول البيروفي الرينغيت الماليزي، لذلك فالمصارف المحلية التي تسهل هذه التجارة عادة ما تستخدم السول لشراء الدولار الأميركي ثم تستخدم الدولار لشراء الرينغيت. لكن للقيام بذلك، يجب أن تتمتع المصارف بإمكان الوصول إلى النظام المالي الأميركي ويجب أن تتبع القواعد التي وضعتها واشنطن.

بيد أن سبباً آخر أقل شهرة يقف وراء امتلاك الولايات المتحدة سلطة اقتصادية ساحقة، تمر معظم كابلات الألياف الضوئية في العالم، التي تحمل البيانات والرسائل حول الكوكب، عبر الولايات المتحدة. وحيث تصل هذه الكابلات إلى اليابسة الأميركية، يمكن لواشنطن مراقبة حركة المرور الخاصة بها – وهي تقوم بذلك بالفعل – فتسجل في شكل أساسي كل حزمة بيانات مما يسمح لوكالة الأمن القومي برؤية البيانات. لذلك يمكن للولايات المتحدة أن تتجسس بسهولة على ما تفعله الشركات كلها تقريباً، وما يفعله كل بلد آخر. يمكنها تحديد متى يهدد منافسوها مصالحها وإصدار عقوبات ذات مغزى رداً على ذلك.

يعد التجسس والمعاقبة اللذان تمارسهما واشنطن موضوع "الإمبراطورية السرية: كيف استخدمت أميركا الاقتصاد العالمي كسلاح"، وهو كتاب ألفه هنري فاريل وأبراهام نيومان. يشرح هذا الكتاب الكاشف أسراراً عن كيف تمكنت واشنطن من قيادة سلطة ضخمة كهذه والطرق العديدة التي توظف بها هذه السلطة. ويشرح فاريل ونيومان بالتفصيل كيف دفعت هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) الولايات المتحدة للبدء في استخدام إمبراطوريتها وكيف اجتمعت الأجزاء العديدة المكونة لهذه الإمبراطورية لتقييد كل من الصين وروسيا. ويظهران أن البلدان الأخرى قد لا تحب شبكات واشنطن، إلا أن الفكاك منها أمر صعب للغاية.

ويوضح المؤلفان أيضاً كيف أنشأت الولايات المتحدة، باسم الأمن، نظاماً كثيراً ما يساء استخدامه. "لحماية أميركا، حولت واشنطن ببطء لكن بثبات الشبكات الاقتصادية المزدهرة إلى أدوات للهيمنة"، وفق فاريل ونيومان. وكما يوضح كتابهما، يمكن لجهود الولايات المتحدة بغرض الهيمنة أن تسبب أضراراً جسيمة. إذا وظفت واشنطن أدواتها في كثير من الأحيان، فقد يدفع ذلك دولاً أخرى إلى تفكيك النظام الدولي الحالي. يمكن للولايات المتحدة أن تدفع الصين إلى عزل نفسها عن جزء كبير من الاقتصاد العالمي، مما يؤدي إلى إبطاء النمو العالمي. وقد تستخدم واشنطن سلطتها لمعاقبة دول وأشخاص لم يرتكبوا أي خطأ. لذلك يجب على الخبراء التفكير في أفضل طريقة لتقييد إمبراطورية الولايات المتحدة – إن لم يكن احتواءها تماماً.

البيانات والدولارات
ليست مركزية الولايات المتحدة في القطاع المالي العالمي ونقل البيانات غير مسبوقة تماماً. لطالما كانت القوة الرائدة في العالم تتمتع بسيطرة كبيرة على الاقتصاد العالمي وشبكات الاتصالات. في بداية القرن الـ20، مثلاً، أدى الجنيه الاسترليني دوراً رئيساً في عديد من المعاملات الدولية، ومر عدد وافر من كابلات التلغراف البحرية العالمية كلها عبر لندن.

لكن عام 2023 ليس عام 1901. يحدد عصر اليوم ما يسميه بعض خبراء الاقتصاد "العولمة المفرطة". لقد أصبح العالم أكثر تشابكاً مما كان عليه قبل قرن. ولا يقتصر الأمر على أن التجارة العالمية تشكل الآن حصة أكبر من النشاط الاقتصادي مقارنة بحصتها في الماضي، أما تعقيد المعاملات الدولية فأكبر بكثير أيضاً من أي وقت مضى. والواقع المتمثل في أن كثيراً من هذه المعاملات يمر عبر مصارف وكابلات تسيطر عليها الولايات المتحدة يمنح واشنطن سلطات لم تمتلكها أية حكومة في التاريخ.

يتصور عديد من المراقبين العاديين، وعدد غير قليل من المعلقين المحترفين، أن هذه الهيمنة تمنح الولايات المتحدة مزايا اقتصادية كبيرة. لكن الاقتصاديين الذين درسوا الأحوال في شكل عام لا يعتقدون بأن الوضع الخاص للدولار يقدم أكثر من مساهمة هامشية في الدخل الحقيقي للولايات المتحدة – أي مقدار الأموال التي يجنيها الأميركيون بعد أخذ التضخم في الحسبان. لا يبدو أن هناك أية دراسات للمنافع الاقتصادية التي تأتي من استضافة كابلات الألياف الضوئية، لكن هذه المنافع أيضاً من المرجح أن تكون صغيرة (ولاسيما لأن عديداً من الأرباح التي تأتي من نقل البيانات ربما تحتجز في أيرلندا أو غيرها من الملاذات الضريبية). لكن فاريل ونيومان يظهران أن سيطرة الولايات المتحدة على مفاصل الاقتصاد العالمي الأساسية تمنح واشنطن طرقاً جديدة لإبراز النفوذ السياسي – وأنها استغلت هذه الطرق.

بدأت الولايات المتحدة في الاستفادة من هذه السلطات، كما يجادل المؤلفون، بعد هجمات الـ11 من سبتمبر 2001. في السابق، كانت مخاوف من التجاوز تمنع المسؤولين الأميركيين من ممارسة السلطة الاقتصادية الأميركية. لكن سرعان ما أدرك المسؤولون أنهم ربما كانوا يتابعون المعاملات المالية الخاصة بأسامة بن لادن بطريقة من شأنها أن تكشف عن مخططات هذا الإرهابي وأنهم كانوا يستطيعون استخدام نفوذهم المالي لتعطيل عمليات "القاعدة". وهكذا، بعدما ضربت الجماعة الإرهابية ضربتها، نحت واشنطن مخاوفها جانباً. ووسعت نطاق مراقبتها المالية واستخدامها للعقوبات.

بالنسبة إلى واضعي السياسات، ثبت أن ممارسة هذه السلطات سهلة. فالدولارات المستخدمة في المعاملات الدولية ليست حزماً نقدية بل ودائع مصرفية، ويجب أن يكون لكل مصرف تقريباً يحتفظ بهذه الودائع موطئ قدم في النظام المالي الأميركي إذا دعته الحاجة إلى الوصول إلى مجلس الاحتياطي الفيدرالي. ونتيجة لذلك، تحاول المصارف في أنحاء العالم كله الحفاظ على رضا المسؤولين الأميركيين، خشية أن تقرر واشنطن عزلها. وتقدم قصة كاري لام، الرئيسة التنفيذية السابقة لهونغ كونغ المعينة من الصين، مثالاً على ذلك. يكتب فاريل ونيومان قائلين إن لام، بعدما فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليها بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان، لم تتمكن من الحصول على حساب مصرفي في أي مكان، حتى في مصرف صيني. بدلاً من ذلك، كان لا بد من دفع راتبها إليها نقداً، مع الاحتفاظ بأكوام من المال في مقر إقامتها الرسمي.

قد لا يعرف سانتا كلوز ما إذا كان شخص ما شريراً أو طيباً، لكن وكالة الأمن القومي ربما تعرف ذلك.

ومن الأمثلة الأقل روعة – لكن الأكثر أهمية بكثير – على سلطة الولايات المتحدة الطريقة التي أخذت بها واشنطن بزمام جمعية الاتصالات المالية العالمية بين المصارف، والمعروفة باسم "سويفت". تعمل المنظمة كنظام للمراسلة تجرى من خلاله المعاملات المالية الدولية الرئيسة. والجدير بالذكر أن مقرها في بلجيكا، وليس الولايات المتحدة. لكن نظراً إلى أن عديداً من المؤسسات التي تقف وراءها تعتمد على رضا الحكومة الأميركية، فقد بدأت المنظمة في مشاركة كثير من بياناتها مع الولايات المتحدة بعد هجمات الـ11 من سبتمبر، مما يوفر وسيلة يمكن لواشنطن استخدامها لمتابعة المعاملات المالية في أنحاء العالم كله. عام 2012، تمكنت الحكومة الأميركية من استخدام "سويفت" وسلطتها المالية الخاصة لإخراج إيران في شكل فاعل من النظام المالي العالمي، وإلى أثر وحشي. بعد العقوبات، ركد الاقتصاد الإيراني، وبلغ معدل التضخم في البلاد حوالى 40 في المئة. وفي نهاية المطاف، وافقت طهران على تقليص برامجها النووية في مقابل إغاثة. (عام 2018، ألغى الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاتفاق، لكن الخطوة عبارة عن قصة أخرى).

هذا هو نوع السلطة التي تحصل عليها الولايات المتحدة من سيطرتها على المفاصل المالية الأساسية. لكن فاريل ونيومان يوضحان أن ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة بسيطرتها على المفاصل الأساسية للبيانات يمكن وصفه بأنه أكثر روعة. في عديد من الأماكن التي تدخل فيها كابلات الألياف الضوئية إلى الأراضي الأميركية، قامت الحكومة الأميركية بتركيب "مقسمات": موشورات تقسم أشعة الضوء التي تحمل المعلومات إلى تيارين. يذهب أحد التيارين إلى المستلمين المقصودين، لكن الآخر يذهب إلى وكالة الأمن القومي، التي تستخدم بعد ذلك حوسبة عالية الطاقة لتحليل البيانات. ونتيجة لذلك، يمكن للولايات المتحدة مراقبة الاتصالات الدولية كلها تقريباً. قد لا يعرف سانتا كلوز ما إذا كان شخص ما شريراً أو طيباً، لكن وكالة الأمن القومي ربما تعرف ذلك.

يمكن لبلدان أخرى، بالطبع، أن تتجسس على الولايات المتحدة. الصين، على وجه الخصوص، تعمل بجد لاعتراض التكنولوجيا الأميركية المتقدمة. لكن أحداً لا يتجسس بطريقة أفضل من طريقة واشنطن، وعلى رغم أفضل الجهود التي تبذلها بكين، لم تتمكن الصين من سرقة ما يكفي من الأسرار لمضاهاة البراعة الأميركية. يشير فاريل ونيومان إلى أن الولايات المتحدة لا تزال تهيمن على الملكية الفكرية الحاسمة – ليس البرمجيات التي تشغل رقائق أشباه الموصلات الحالية، بل البرمجيات المستخدمة لتصميم أشباه الموصلات الجديدة المعقدة، التي لا تزال تشكل سوقاً أساسية. ويعلن المؤلفان أن "الملكية الفكرية الأميركية" تخترق "سلسلة إنتاج أشباه الموصلات بأكملها، مثل خيوط الصيد البحري الطويلة المزودة بخطافات شائكة يحمل كل منها طعماً".

تلك السلطة كلها
هناك عديد من الأمثلة التوضيحية على استخدام واشنطن إمبراطوريتها السرية كسلاح، بما في ذلك فرض عقوبات على كل من لام وإيران. لكن التطور الذي قد يظهر في شكل أفضل كيف تجتمع العناصر الثلاثة للإمبراطورية – السيطرة على الدولارات، والسيطرة على المعلومات، والسيطرة على الملكية الفكرية – هو توجيه ضربة قاضية بنجاح مذهل إلى شركة "هواوي" الصينية.

قبل بضع سنوات فقط، كان المسؤولون الأميركيون ونخب السياسة الخارجية يعيشون حالاً من الذعر في شأن "هواوي". بدت الشركة، التي لها علاقات وثيقة مع الحكومة الصينية، مستعدة لتزويد معظم أنحاء الكوكب بمعدات الجيل الخامس للاتصالات، وشعر المسؤولون الأميركيون بقلق من أن يمنح هذا الانتشار الصين فعلياً القدرة على التنصت على بقية العالم – تماماً كما تفعل الولايات المتحدة.

لذلك استخدمت واشنطن إمبراطوريتها المتشابكة لسحق "هواوي". أولاً، وفق فاريل ونيومان، علمت الولايات المتحدة أن "هواوي" كانت تتعامل خلسة مع إيران، وبالتالي تنتهك العقوبات الأميركية. بعد ذلك، تمكنت من استخدام وصولها الخاص إلى المعلومات المتعلقة ببيانات المصارف الدولية لتقديم أدلة على أن الشركة ومديرتها المالية، منغ وانتشو (التي صودف أيضاً أنها ابنة المؤسس)، ارتكبتا احتيالاً مصرفياً من خلال إخبار شركة "إتش إس بي سي" البريطانية للخدمات المالية زوراً بأن شركتها لم تكن تتعامل مع إيران. اعتقلتها السلطات الكندية، بناء على طلب أميركي، أثناء سفرها عبر فانكوفر في ديسمبر 2018. واتهمت وزارة العدل الأميركية كلاً من "هواوي" ومنغ بالاحتيال الإلكتروني وعدد من الجرائم الأخرى، واستخدمت الولايات المتحدة قيوداً على تصدير التكنولوجيا الأميركية للضغط على "شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات"، التي تزود عديداً من أشباه الموصلات المهمة، لقطع وصول "هواوي" إلى الرقائق الأكثر تقدماً. وفي الوقت نفسه، اعتقلت بكين كنديين اثنين في الصين واحتجزتهما كرهينتين.

بعدما أمضت ما يقرب من ثلاث سنوات قيد الإقامة الجبرية في كندا، أبرمت منغ اتفاقاً اعترفت بموجبه بعديد من التهم وسمح لها بالعودة للصين. ثم أطلقت الحكومة الصينية سراح الكنديين. لكن بحلول تلك المرحلة، كانت "هواوي" باتت قوة تضاءلت كثيراً، واختفت آفاق الهيمنة الصينية على الجيل الخامس للاتصالات – أقله في الأجل القريب. لقد شنت الولايات المتحدة بهدوء حرباً من حروب ما بعد الحداثة على الصين، وانتصرت.

للوهلة الأولى، قد يبدو هذا النصر وكأنه أخبار جيدة في صورة لا لبس فيها. فعلى رغم كل شيء، حدت واشنطن من الوصول التكنولوجي لنظام ديكتاتوري من دون الحاجة إلى استخدام القوة. كذلك قد تثير أيضاً قدرة الولايات المتحدة على عزل كوريا الشمالية عن قسم كبير من النظام المالي العالمي، أو معاقبتها الناجحة للمصرف المركزي الروسي، تأييداً مشروعاً. من الصعب أن نغضب من استخدام الولايات المتحدة للسلطات الخفية لمنع الإرهاب العالمي، أو تفكيك عصابات المخدرات، أو عرقلة محاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إخضاع أوكرانيا.

ومع ذلك، من الواضح أن هناك أخطاراً في ممارسة هذه السلطات. يعبر فاريل ونيومان، من جانبهما، عن قلقهما من إمكان تجاوز هذه السلطات. يكتبان قائلين إن استخدام الولايات المتحدة سلطتها الاقتصادية بحرية كبيرة قد يقوض أساس تلك السلطة. مثلاً، إذا استخدمت الولايات المتحدة الدولار كسلاح ضد عدد كبير جداً من البلدان، فقد تنجح هذه البلدان في توحيد صفوفها واعتماد طرق بديلة للمدفوعات الدولية. وإذا شعرت بلدان بقلق كبير من التجسس الأميركي، يمكنها مد كابلات للألياف الضوئية تتجاوز الولايات المتحدة. وإذا فرضت واشنطن كثيراً من القيود على الصادرات الأميركية، قد تبتعد الشركات الأجنبية عن التكنولوجيا الأميركية. مثلاً، قد لا تكون البرمجيات المصممة صينياً مطابقة لتلك الأميركية، لكن ليس من الصعب جداً تخيل قبول بعض الأنظمة جودة رديئة كثمن للفكاك من نفوذ واشنطن.

حتى الآن، لم يحدث أي من هذا. على رغم التعليقات التي لا نهاية لها حول الزوال المحتمل للدولار، لا تزال العملة الخضراء العملة الأقوى. في الواقع، وفق فاريل ونيومان، صمد الدولار على رغم "الغباء الشرير" لإدارة ترمب. قد يكون من الأسهل إنجاز مد كابلات للألياف الضوئية تتجاوز الولايات المتحدة، والأشخاص الذين ليسوا خبراء تكنولوجيين لا يعرفون حقاً مدى سهولة أن تستبدل بالبرمجيات الأميركية برمجيات أخرى. ومع ذلك، تبدو سلطة واشنطن الخفية دائمة في شكل ملحوظ.

لكن هذا لا يعني أن لا حدود للمدى الذي يمكن أن تدفع الولايات المتحدة باتجاهه. يخشى فاريل ونيومان أن تقرر الصين، التي تعد قوة اقتصادية عظمى في حد ذاتها، "الدفاع عن نفسها من خلال قطع اتصالاتها": قطع الروابط المالية والمعلوماتية الدولية مع العالم الأوسع (وهو ما تفعله بالفعل إلى حد ما). ستكون لإجراء من هذا القبيل تكاليف اقتصادية كبيرة يتحملها الجميع. ومن شأن ذلك أن يحط من دور الصين كورشة للعالم، قد يكون من الصعب استبدال أخرى بها – بطريقتها الخاصة – على غرار صعوبة انتزاع عملة ما الدور العالمي الذي يؤديه الدولار الأميركي.

ثمة أيضاً خطر واضح يتمثل في أن البلدان التي تخسر الحروب من دون دخان السلاح يمكن أن ترد بشن حروب بدخان السلاح. يكتب فاريل ونيومان قائلين إن استخدام التجارة كسلاح هو أحد العوامل التي أسهمت في اندلاع الحرب العالمية الثانية: لقد انخرطت كل من ألمانيا واليابان في غزوات عسكرية لأسباب منها تأمين الوصول إلى المواد الخام الذي كانتا تخشيان أن تقطعه العقوبات الدولية. السيناريو الكابوسي اليوم هو أن ترد الصين، خوفاً من تهميشها، بغزو تايوان، التي تؤدي دوراً رئيساً في صناعة أشباه الموصلات العالمية.

لكن حتى لو لم تفرط الولايات المتحدة في استخدام إمبراطوريتها السرية أو تثر نزاعاً ساخناً، لا يزال هناك سبب رئيس للقلق في شأن سلطة واشنطن الضخمة في الاقتصاد والبيانات: لن تكون الولايات المتحدة دائماً على حق. لقد اتخذت واشنطن كثيراً من القرارات غير الأخلاقية على صعيد السياسة الخارجية، ويمكنها استخدام سيطرتها على المفاصل الأساسية العالمية لإلحاق ضرر بأشخاص وشركات ودول ينبغي ألا تعاقب. ترمب، مثلاً، فرض رسوماً جمركية على كندا وأوروبا. ليس من الصعب أن نتخيل أنه، إذا فاز بولاية ثانية، سيحاول إعاقة اقتصادات الدول الأوروبية التي تنتقد سياساته الخارجية أو حتى الداخلية. لا يتعين على المرء أن يكون ممن يرون كل شيء من خلال عدسة حرب العراق أو يصرون على أن الولايات المتحدة أجبرت بوتين بطريقة ما على غزو أوكرانيا ليقلق في شأن افتقار الإمبراطورية السرية إلى المساءلة.

قواعد الطريق
لا يقترح فاريل ونيومان سياسات يمكن أن تخفف من هذه الأخطار، بخلاف الإشارة إلى أن الإمبراطورية السرية تستحق النوع نفسه من التفكير المتطور الذي كرس ذات يوم للمنافسات النووية. ومع ذلك، من خلال تسليط الضوء على كيفية تغير طبيعة السلطة العالمية، يقدم الكتاب مساهمة ضخمة في الطريقة التي ينظر بها المحللون إلى النفوذ. يتعين على واضعي السياسات والباحثين أن يبدأوا في صياغة خطط لإصلاح هذه المشكلات.

يتمثل أحد القرارات الممكنة في وضع قواعد دولية لاستغلال المفاصل الاقتصادية الأساسية، على غرار القواعد التي قيدت الرسوم الجمركية وغيرها من التدابير الحمائية منذ وضع الاتفاق العام للرسوم الجمركية والتجارة، عام 1947. وكما يعلم خبراء الاقتصاد التجاري جميعاً، يقوم الاتفاق (ومنظمة التجارة العالمية التي انبثقت عنه) بأكثر من مجرد حماية البلدان من بعضها بعضاً. هما تحميانها من غرائزها السيئة.

سيكون من الصعب القيام بإجراء مماثل مع الأشكال الأحدث من السلطة الاقتصادية. لكن للحفاظ على سلامة العالم، يجب على الخبراء محاولة التوصل إلى تنظيمات لها الأثر التعديلي نفسه. ذلك أن الأخطار أكبر إلى درجة لا يصح معها ترك هذه التحديات تمر من دون معالجة.

بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2008، أستاذ مميز للاقتصاد في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك.
مترجم عن "فورين أفيرز" يناير/فبراير 2024


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.