لم تتوقف الولايات المتحدة لعقود عن مهاجمة الاتحاد السوفييتي قبل تفكّكه في العام 1991، من خلال وصمه بالنظام الشمولي التوتاليتاري الذي يتحكّم بمفاصل الشعب وبلقمة عيشه، إلا أنّ الولايات المتحدة، ومن خلال سياساتها الاقتصادية على الصعيد الدولي، هي الوريث الأول والوحيد لهذا النظام الشمولي، ليس سياسياً فحسب، ولكن أيضاً على الصعيدين العسكري والاقتصادي. والأخيـر يتجلى بفرض الدولار عملة رئيسية في التجارة الدولية، ولا سيّما في الموادّ الرئيسية الخام على اختلاف أنواعها وأصنافها، وفي رأس القائمة البترول والذهب، إذ يتحرك مؤشراهما "الأخضر" و"الأحمر" عالمياً بالدولار الأميركي، الذي يُعتبر الدرع الأولى للولايات المتحدة بما لا يقلّ استراتيجياً وعلى المديات القريب والمتوسط والبعيد عن أسلحتها النووية.
من مظاهر هذا التحكّم الشمولي للعملة الأميركية ومن يقف وراءه من شركات كبرى عابرة للقارات، ما قام به الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أخيراً، حتى قبل استلامه مقاليد الحكم في واشنطن، من تهديد دول مجموعة "بريكس" بفرض تعرفة جمركية كبيرة عليها في حال فكرت بإنشاء عملة موحدة بديلة عن الدولار الأميركي.
وأكد ترامب أنّه سيطلب من الدول الأعضاء في "بريكس"، وهي مجموعة من الاقتصادات الناشئة التي تدعمها الصين وروسيا، الالتزام بعدم إنشاء عملة جديدة، وإلاّ فمواجهة رسوم جمركية تفرضها الولايات المتحدة بنسبة 100 بالمئة خلال إدارته، التي بقي على استلامها زمام الحكم أسابيع في العشرين من كانون الثاني (يناير) المقبل.
رجل الأعمال والمشاريع العابرة للدول ترامب، المعروف بأنّه ينظر إلى السياسة من زاوية الاقتصاد والمال والثروة، قال في شبكته الاجتماعية "تروث": "لقد انتهت فكرة أن دول 'بريكس' تحاول الابتعاد عن الدولار بينما نراقب مكتوفي الأيدي". وأضاف: "نطالب بالتزام من هذه الدول بأنها لن تصدر عملة جديدة لبريكس ولن تدعم أيّ عملة أخرى لتحل محل الدولار الأميركي العظيم"، حسب تعبيره. مضيفاً: "وإلاّ فإنّ تلك الدول ستواجه تعريفات جمركية بنسبة 100 بالمئة، وعليها توقع أن تقول وداعًا للتعاملات التجارية مع الاقتصاد الأميركي الرائع". وتابع ترامب قائلاً: "ويمكن تلك الدول أن تبحث عن مغفل آخر! لا توجد أي فرصة لأن تحل مجموعة بريكس محل الدولار الأميركي في التجارة الدولية، وأي دولة تحاول ذلك يجب أن تلوّح بالوداع لأميركا".
وكان ترامب ومستشاروه الاقتصاديون ناقشوا باكراً قبل انتخابه في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، سبل معاقبة الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، من الذين يسعون إلى الانخراط في التجارة الثنائية بعملات أخرى غير الدولار. وتشمل تلك الإجراءات النظر في خيارات مثل ضوابط التصدير ورسوم على التلاعب بالعملة وعلى التجارة، حسبما ذكرت "بلومبرغ نيوز" في نيسان (أبريل) الماضي.
وتتكون مجموعة "بريكس" من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا منذ عام 2011، وفي وقت سابق من هذا العام انضمت إليها إيران والإمارات العربية المتحدة وإثيوبيا ومصر رسمياً.
في عام 2023، اقترح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إنشاء عملة مشتركة كوسيلة لمعاملات الدفع خوفاً من تقلب الدولار الأميركي، وكرّر دا سيلفا هذه الفكرة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي قبيل الانتخابات الأميركية الأخيرة.
ومن المظاهر الواضحة للتحكم الأميركي بالاقتصاد العالمي واستمرار الولايات المتحدة في فرض الدولار عملة رئيسية تهيمن ولو بالقوة والتهديد على الاقتصاد العالمي، والسعي في وأد أيّ محاولة ولو في خطواتها الأولى لقيام عملة دولية موحّدة غير الدولار، ما أقدمت عليه واشنطن تؤازرها دول أوروبية عدة بتجميد العوائد السنوية للأصول الروسية البالغة 300 مليار يورو، واستعمالها في توفير قروض لأوكرانيا بقيمة 50 مليار يورو. ووجهة نظر الغرب في ذلك أن موسكو انتهكت القانون الدولي وبالتالي يجب أن تتحمل المسؤولية، مع ما تعرفه حكومات الغرب من فساد مستشر في مفاصل حكومة كييف على كافة المستويات، حتى في زمن حربها مع روسيا. ولا سيّما مع تقرير نشرته "بي بي سي" البريطانية بشأن انضمام هانتر بايدن بين عامي 2014 و2019 عندما كان والده الرئيس جو بايدن نائباً للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، إلى مجلس إدارة شركة الغاز الأوكرانية "بوريسما".