ألقى دونالد ترامب مؤخراً حجراً في بِركة مياه راكدة حين أعلن أنه ضاق ذرعاً بعدم إنفاق الدول الأوروبية بما يكفي على دفاعها، مضيفاً أنه لن يهبّ لمساعدتها في حال تعرضت لهجوم، بل إنه تخيّل حواراً وهمياً دار بينه وبين زعيم أوروبي قال له فيه إنه سيدفع روسيا لمهاجمة الدول الأوروبية التي لا تدفع ما يكفي على دفاعها.
ومعلوم أن ترامب كان أعلن من قبل أنه إذا انتُخب، فإنه سيُنهي الحرب في أوكرانيا في ظرف 24 ساعة عبر وقف كل المساعدات لإجبار الأوكرانيين على التفاوض (من موقف ضعف) مع روسيا. هذه التصريحات تسببت في صدمة حقيقة للأوروبيين القلقين أصلاً من رؤية «الناتو» يواجه تهديداً حقيقياً في حال انتخاب دونالد ترامب، والذين رأوا أن تصريحاته إنما تؤكد أسوأ كوابيسهم. ولكن ما هي الحقيقة؟ الواقع أنه عندما كان دونالد ترامب رئيساً، شهدت العلاقات العابرة للأطلسي تراجعاً لا تخطئه العين، ولكن دونالد ترامب كان قد ابتعد عن كل من الحلفاء الأوروبيين وحليفي الولايات المتحدة الآسيويين، اليابان وكوريا الجنوبية.
ويخشى الأوروبيون أن تكون ولايته الثانية أسوأ من الأولى، لأنه لن يكون لديه ما يخسره هذه المرة، ويرغب في الانتقام من هذه الدول الأوروبية التي كانت دائماً تفضل جو بايدن عليه. وبالتالي فهناك أيضاً جانب من الانتقام الشخصي في التهديدات التي يمكن أن يطلقها. وفي الأثناء، يرى ناخبوه أنه ينبغي الإنفاق بالأحرى على مكافحة الهجرة من المكسيك بدلاً من الإنفاق على دعم أوكرانيا.
والحقيقة أن هناك الكثير من محاولة الخداع والمناورة في كلام دونالد ترامب، والواقع مختلف تماماً، ذلك أن الولايات المتحدة ليست موجودة في أوروبا من أجل مصلحة الأوروبيين، وإنما من أجل مصلحتها الخاصة، لأن الولايات المتحدة أتت إلى أوروبا في نهاية الحرب العالمية الثانية من أجل الحؤول دون سيطرة الاتحاد السوفييتي على القارة الأوروبية بأكملها. وقد كانت هناك من أجل الدفاع عن مصالحها الجيوسياسية وعن حرية الأوروبيين بالقدر نفسه. فهل تغيّرت هذه المصالح الجيوسياسية كثيراً؟
كلاّ، ولا شك أن التحدي الروسي لا يشبه التحدي السوفييتي، ولكن الوجود الأميركي في أوروبا، وحقيقة أن الولايات المتحدة تضمن أمن الدول الأوروبية ضد التهديد الروسي الذي ازداد بشكل كبير منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، ينسجمان مع مصالح الولايات المتحدة. ذلك أنه في مقابل هذه الحماية، تستفيد الولايات المتحدة من نفوذ كبير في جميع المجالات، السياسية والتجارية والاستراتيجية.
وقد لاحظنا منذ بداية الحرب في أوكرانيا أن نفوذها في أوروبا ازداد وتعزز بشكل كبير، في حين أنه ضعف وتراجع في بقية العالم، ثم إنه لو كانت لدى دونالد ترامب أي رغبة حقيقية في قطع هذه الروابط، فإن البنتاجون ووزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية، وكل الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة لن تتردد في تذكيره بهذا الواقع: أن الولايات المتحدة تستفيد من هذه العلاقة العابرة للأطلسي أكثر بكثير من التكلفة التي تكلّفها، وإن بخصوص مبيعات الأسلحة فقط. ذلك أن 63 في المئة من مشتريات الدول الأوروبية من الأسلحة من خارج إنتاجها الوطني كانت من الولايات المتحدة.
ولا شك أن ضمان أمن الأوروبيين يمثّل أداة هائلة في حوزة الولايات المتحدة. وفي هذا الصدد، فإن دونالد ترامب سيعمد بكل تأكيد إلى ابتزاز الدول الأوروبية من أجل حملها على الإنفاق أكثر، عبر شراء المعدات العسكرية الأميركية، وكذلك عبر تقليص العجز التجاري الأميركي، تحت تهديد بتعليق الالتزام الأميركي.
وأمام هذا التهديد، سيكون أمام الدول الأوروبية الاختيار لتأكيد رغبتها في تحقيق الاستقلالية، وبالتالي الاستغناء عن الدعم الأميركي. غير أن مناخ التوتر والخوف من روسيا بالنسبة لعدد معين منها، ولا سيما دول الشرق، يدفعانها إلى محاولة القيام بأي شيء حتى تبقي الولايات المتحدة على رابطها الاستراتيجي مع أوروبا. وعلينا أن نتذكر هنا أنه خلال رئاسة دونالد ترامب كانت بولندا مستعدة لدفع ملياري دولار للولايات المتحدة من أجل إنشاء قاعدة عسكرية كان سيطلق عليها اسم «قاعدة ترامب». الخوف من روسيا، والشعور منذ وقت طويل بالانقياد ونوع من التبعية تجاه الولايات المتحدة هو السائد إذن.
وإذا كان دونالد ترامب قد راهن دائماً على فن عقد الصفقات والتفاوض، فإنه يعمد هنا إلى أسلوب الابتزاز لانتزاع المزيد من الدول الأوروبية. وعليه، على هذه الدول أن تختار وتقرر ما إن كانت الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية تمثّل خياراً أقل خطورة، أم ما إن كانت ستلبي مطالب دونالد ترامب وشروطه في سبيل المظلة الأميركية.