: آخر تحديث

صباح ومساء

14
15
16

استعدت عبارة رولان بارت وهو يصف الوحدة: «الوحدة النهائية سادت هنا، مكتومة، ولن يكون لها من الآن فصاعداً نهاية سوى موتي شخصياً، وأنا أنتهي من قراءة رواية «صباح ومساء» للكاتب النرويجي يون فرسه، الفائز بجائزة نوبل للآداب في العام الماضي (2023)، في ترجمتها العربية التي وضعتها شرين عبد الوهاب وأمل رواش، حيث بدا لي أن فكرة الرواية تتمحور حول الوحدة التي يسكنها الإنسان وتسكنه منذ لحظة ولادته حتى مماته.

تقع الرواية في قسمين، في الأول يصف يون فوسه لحظة ولادة الطفل يوهانس الذي حرص والده، الصياد البسيط، أن يحمل اسم جده، والد الأب، حيث نعيش في الأجواء المتوترة لمخاض الأم وهي تلد طفلها على يد القابلة، حتى نصل إلى لحظة رؤية الطفل للنور: «لقد أوشك الصبي يوهانس أن يرى نور الدنيا. إنه في ظلمة بطن أمه ودفئه، نما ليكون مولوداً وافر الصحة، ومن كونه عدماً بات كائناً بشرياً، رجلاً صغيراً، نعم هناك داخل مارتا (أمه) حيث تَخلّقت أصابعه وساقاه ووجهه، وفيه تخلّقت عيناه وعقله، والآن هو على الطريق بينما تتوجع أمه. يخرج هو إلى هذا العالم البارد وعندها سوف يصبح وحيداً منفصلاً عن مارتا، منفصلاً عن كل الآخرين، سوف يغدو وحيداً».

منذ البدء يقذف الكاتب الطفل إلى الوحدة، التي يبدو أنها قدر الإنسان، قبل أن يلج بنا في القسم الثاني من الرواية إلى مقدّمات وفاة يوهانس، وقد غدا عجوزاً وحيداً، بعد وفاة زوجته التي أحبّها، واستقلال أولاده عنه، ليؤسسوا عائلاتهم. ولا يأخذنا الكاتب مباشرة إلى لحظة موت يوهانس بهدوء أثناء نومه، وإنما يمسك بأيدينا مشياً على عتبات الرحيل، حيث يفقد يوهانس ذاكرته، وتختلط الوجوه في ذهنه، فتارة يحسب أن زوجته المتوفاة ما زالت معه في البيت، تُحضّر لهما القهوة ليحتسياها معاً، فيما يلف هو لنفسه سيجارة ليدخنها، وتارة يخال نفسه ماشياً على قدميه قاصداً بيت صديق العمر بيتر، المتوفى هو الآخر، ليحلق شعر رأسه الذي طال وبات أشيباً.

يستعيد يوهانس اللحظة التي قرر فيها التوقف عن مهنته: الصيد، قال: «لن أصطاد مرة أخرى. دع الآخرين يقوموا بذلك». لقد اصطاد ما يكفي، ولكن في غمرة الوحدة القاتلة يجد نفسه «يأخذ القارب ويخرج إلى البحر، ماذا عساه أن يفعل سوى ذلك ليمضي الوقت؟».

تأزف لحظة الموت، «الرحلة إلى اللامكان، الذي لا اسم له»، التي هيأنا لها الكاتب منذ صفحات الرواية الأولى وهو يتحدث عن بطله، وهو طفل رضيع: «عندما يحين أجله سوف يتحلل ليصبح لا شيء، ويعود من حيث أتى، من العدم إلى العدم».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد