كان يغلب على القمم الكبرى الطابع السياسي في العصر الحديث، حتى جاء البروفيسور في جامعة جنيف عام 1971 بمشروع إطلاق المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس).
فأحدثت فكرة الألماني الأصل «كلاوس شواب» نقلة نوعية وزخماً في نوعية القرارات والأفكار التي يمكن أن يناقشها قادة العالم في شتى القطاعات المالية والتجارية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
صار حضور هذا المؤتمر هو «البرستيج» بعينه، حيث يطلق على من لديه الاستعداد لدفع تكلفة عضوية تبلغ 600 ألف دولار أمريكي بأنه «رجل دافوس» أو«DAVOS’ Man» وقد فعل ذلك كثيرون.
فهم سيجالسون زعماء العالم، وكبار الرؤساء التنفيذيين، والمفكرين، والأكاديميين، وقادة الرأي. وهذا لا يعني أن ثراء المجتمعين مرتبط بمن دفع للحضور، بل توجه دعوات مجانية إلى أشخاص يشكلون قيمة مضافة أو يمكنهم تسليط الضوء على قضايا المنتدى لزيادة الزخم العالمي لتصل ارتداداته إلى متخذي القرارات في شتى أرجاء المعمورة.
وقد حضر القمة شخصيات مثل الرؤساء الأمريكيين وملك بريطانيا ورئيس فرنسا وزعماء عرب وآسيويين وأوروبيين وغيرهم ممن تعج بهم القاعات. هي باختصار «حيرة» إعلامية لأن رجل الإعلام سيجد صعوبة بالغة في من يستطيع أن يلتقي به، ولذلك مسألة اللقاءات تتطلب مواعيد مسبقة وصارمة أو ذكاء إعلامي يقتنص «مانشيت» أو سبق صحافي.
ويسهم «دافوس» في تعزيز دور القطاع الخاص في التنمية العالمية، فليست الدولة وحدها من يمكنها التأثير، بل حتى المليارات التي تجنيها الشركات، والتي تناهز ميزانيات دول بأكملها يمكن أن تصنع الفرق. ولذلك يحضر المنتدى شخصيات لامعة مثل رئيس «كوكاكولا»، ورئيس شركة «أوبر»، و«مايكروسوفت»، وغيرهم ممن يصعب حصرهم.
ونجح «دافوس» في إذاعة صيت «الاستدامة» ومكافحة التغير المناخي، فقد كان منبراً لطرح مبادرات الاستدامة البيئية ومكافحة التغيير المناخي مما رفع مقدار الوعي لدى الشعوب بعد تناقل وسائل الإعلام لمخرجات جلساته. وقد نجح عبر مبادراته عام 2000 في إيجاد تحالف عالمي للقاحات والتحصين يستفيد منه ملايين الأطفال حول العالم.
مشكلة السياسيين عندما يلتأمون في قمم، فإن شؤون السياسة تطغى على أجواء اللقاءات، ولكن عندما تكون القمة أصلاً ميداناً لمناقشة تشعبات كل ما له علاقة باقتصاديات الشعوب وآمالها وطموحاتها فإنها فرصة سانحة لدفع الجهود نحو تحقيق تطلعات الناس.
وقد درسنا في الجامعة أن الاقتصاد والسياسة صنوان، فهما بالفعل يكملان بعضهما البعض. ويؤثر كل منهما على الآخر سلباً وإيجاباً. ولذلك نجح المنتدى في تحسين علاقات دولية عديدة، منها عودة المياه إلى مجاريها بين تركيا واليونان عام 1988م فقد كانا على حافة المواجهة المسلحة.
كما أن المشاريع العملاقة الطموحة حول العالم تحتاج بطبيعة الحال إلى تحالف من بلدان أخرى، وكذلك الحال إلى تحالف القطاعين الخاص والعام، لتستفيد الشعوب من فكرة التكامل بينهما في مشاريع تعود بالنفع على الطرفين.
ولأن التكنولوجيا في عصرنا صارت في وتيرة سريعة ومذهلة، فلا بد من وجود منتدى جاد يلقى احتراماً دولياً لمناقشة قضايانا.
منها مثلاً قضية الساعة، وهي ماذا سيصنع بنا الذكاء الاصطناعي، وكيف نمتطى صهوة جواده لخير البشرية، وهل من قوانين يمكن أن نتشارك بها لحماية أفرادنا ومؤسساتنا من مغبة الانفلات التقني.
فقد برزت مخاوف جسدتها أفلام هوليوود من خطورة أن يتطور الذكاء الاصطناعي ليوجه أسلحة في أرض المعركة إلى أهداف خطيرة أو غير مقصودة لتجمعات بشرية أو مواقع حساسة. هنا ستقع الكارثة. من هنا تأتي أهمية دافوس في خلق نقاش منهجي، ومبادرات مدعومة بتقنيات أو تشريعات حصيفة.
ويعد «دافوس» مثل غيره من اللقاءات والمنتديات في مواجهة انتقادات، منها ذكوريته، فما زال حضور المرأة خجولاً، إذ لا يتجاوز 22 في المئة، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بمستوى التعليم والتمثيل القيادي الذي وصلت إليه حول العالم، فالذكور أوفر حظاً في التواجد.
كما أنه يغلب عليه الطابع «غير الشبابي»، حيث يصل متوسط أعمار الحضور إلى 54 عاماً للرجال و49 عاماً للسيدات. وهذا ما دفع مؤسس دافوس لإطلاق «المنتدى العالمي للقادة الشباب» عام 2004. ويصف آخرون المنتدى بأنه نخبوي. وهي كلها أمور يمكن التغلب عليها.
كلنا نسميه «دافوس» لكن في الواقع هو منتدى اقتصادي عالمي يعقد في المنتجع الجبلي السويسري دافوس ومنها اشتهرت التسمية. وأياً كان اسمه ستبقى المحاولة البشرية الأبرز حتى الآن لإحداث تغيير ملموس في الاقتصاد، وتحقيق شيء من آمال الشعوب وتطلعاتها. وإن كان من حسنة له، فقد كان ملهماً لقمم عديدة والتي صرنا نجني ثمارها حول العالم.