أوروبا عملاق اقتصادي، لكنّها قزم في السياسة والعسكر مقارنة بحجمها وإمكاناتها وقدراتها الكبيرة وتاريخها الحافل. تطوّر اتّحادها حتى صار أكبر قوّة اقتصادية عالمية، لكنّه لم يطوّر نفوذاً أمنيّاً ودفاعياً موازياً. ساهمت دول القارّة بنفسها في إضعاف هذا الدور. عملية صنع القرار والإجماع عليه في التكتّل الأوروبي صعّبت نموّ التكتّل وتوسيع نفوذه. أعطى الاتحاد حقّ الفيتو لكلّ دولة من دوله الـ 27 في قضايا السياسة الخارجية والدفاع فتاه القرار وضعف. الحذر الشديد لدوله من رفع مستويات الإنفاق العسكري بعد حربين عالميّتين دمويّتين، منع أوروبا من بناء قوة ردع أمنيّة خاصة بها، الأمر الذي جعلها تعتمد بالكامل على القوة الأميركية لردع أيّ نزاع عسكري محتمل على أراضيها. ومن يفقد القبضة العسكرية يفقد قوّة الفعل السياسي. حروب البلقان في التسعينيات فضحت هشاشتها وجاءت الحرب الأوكرانية لتجعلها ملحقاً ثانوياً بالولايات المتحدة. لم توفّر واشنطن فرصة لابتزاز بروكسيل بورقة القوّة هذه إلّا واستغلّتها في المزيد من إضعاف القارّة العجوز والهيمنة على قراراتها وسياساتها.
فوقيّة ترامب مع الأوروبيّين
لم يخلُ الأمر من نظرة تعالٍ وتعامل فوقيّ أميركي مع الأوروبيين بلغت ذروتها حينما كان دونالد ترامب رئيساً في البيت الأبيض. لم يوفّر مناسبة إلّا وهدّد فيها حلفاءه الأوروبيين في حلف "الناتو" بحرمانهم من الحماية الأميركية وفرط التحالف إذا لم ينصاعوا لمشيئته. عاد وكرّر في حملته الانتخابية الجديدة لولاية ثانية أنّه لن يدعم سوى حلفاء الناتو الأوروبيين الذين "يتعاملون بشكل مناسب" مع الولايات المتحدة عسكرياً، وقال: "لقد استغلّ حلف شمال الأطلسي بلادنا، واستفادت الدول الأوروبية منه".
تقدُّمه الانتخابي الساحق في ولايتَي أيوا ونيوهامشاير في السباق على الفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة الأميركية، الذي عزّز حظوظه بعودة ظافرة إلى البيت الأبيض، أفزع حلفاء أميركا الأوروبيين قبل الخصوم.
الاتحاد الأوروبي يخشى أن يعود التوتّر بين ضفّتَي الأطلسي مع عودته. ويخشى قادة الاتحاد، الوسطيون والليبراليون منهم خصوصاً، أن تعزّز شعبوية ترامب الأحزاب الشعبوية التي يشتدّ ساعدها في أوروبا على حسابهم. هذه المخاوف لها ما يبرّرها، ذلك أنّ التجربة الأولى التي حكم فيها طبعها الجفاء بين الجانبين على حساب علاقة التحالف الاستراتيجيّة المفترضة بينهما. لم تكن العلاقة بين الضفّتين مريحة على أكثر من مسار، سواء المسار السياسي أو الاقتصادي، أو مسار الأمن. والوحدة الشكليّة التي أظهرها الاتحاد في الحرب في أوكرانيا مهدّدة أيضاً
بمحاولة ترامب استمالة دول بعينها على حساب دول أخرى، لا سيّما ألمانيا وفرنسا وإسبانيا.
قال رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو إنّ أوروبا ستكون وحيدة أكثر من أيّ وقت مضى، إذا عاد شعار "الولايات المتحدة مع ترامب". ووصفت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد الفوز الانتخابي المحتمل لترامب بأنّه "تهديد واضح" لأوروبا. وأعرب وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر عن اعتقاده بأنّ أوروبا القويّة هي أفضل ردّ على الفوز المحتمل للرئيس الأميركي السابق.
مخاوف أوروبيّة من ترامب
الهجمة الشرسة التي يخوضها ترامب ضدّ الرئيس جو بايدن وسياساته، لا سيما سياسة التقارب مع أوروبا والتورّط في حرب أوكرانيا، وتجديد الدعم لحلف الناتو، ترى فيها بروكسيل رسالتين:
- أولاهما، أن ترامب، في حال فوزه بالرئاسة، سيحدث انقلاباً كاملاً في السياسة الخارجية، ضمن أولويات مختلفة عن أولويات بايدن، منها التحوّل عن سياسة التحالف مع أوروبا، والتراجع عن دعم الحرب في أوكرانيا والعداء لروسيا.
- ثانيتهما، أنّ رفع شعار "أميركا عظيمة" يعني العودة إلى سياسة الانكماش في السياسة الخارجية، وإعطاء كلّ الأولوية لبناء أميركا العظمى على حساب الآخرين، وتالياً تخفيف التزامات أميركا نحو أوروبا، وفي مقدّمها التزاماتها الماليّة والعسكرية الهائلة في دعم أوكرانيا، والضغط على دولها لتدفع "ثمن حماية أميركا لها"، والانسحاب من المنظمات الدولية والاتفاقات الدولية مثل اتفاق المناخ ومنظمة التجارة العالمية.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وأميركا أفضل من إيران وحماس
عقب اكتساح ترامب الانتخابات التمهيدية في أيوا كتبت صحيفة "بوليتيكو": "مع اقتراب عودة ترامب.. أوروبا ترتجف من احتمال مواجهة بوتين بمفردها". في هذا السياق يمكن فهم كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن "بقاء أوروبا وحدها" وضرورة أن تكون القارّة القديمة "واضحة بشأن الولايات المتحدة"، ولهذا السبب "نحتاج إلى أوروبا أقوى قادرة على حماية نفسها، ولا تعتمد على الآخرين".
بالفعل دعا الألمان إلى بناء جيش أوروبي موحّد بعدما كانوا من المعارضين الأبرز لهذه الخطوة. وارتفعت الأصوات الأوروبية المطالبة بتعزيز العلاقات مع شركاء آخرين مثل الصين أو الهند والبرازيل وغيرها من الدول الواعدة في إفريقيا وآسيا. أمّا بالنسبة إلى بريطانيا التي اختارت "البريكست" والابتعاد عن البرّ الأوروبي، فإنّ فوز زعيم حزب العمال كير ستارمر في انتخابات المملكة المتحدة، المتوقّعة هذا العام، فقد تكون إعادة انتخاب ترامب ذريعة لإعادة النظر في تقارب أكثر جوهرية مع الاتحاد الأوروبي.
إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط
يأتي التحدّي الترامبيّ المفترض في وقت يواجه الاتحاد الأوروبي سلسلة من الانقسامات على خلفيّة الاستمرار في دعم أوكرانيا بسبب التداعيات السلبية لهذه الحرب على أوروبا اقتصادياً واجتماعياً. وكذلك التحوّلات السياسية والأيديولوجيّة التي أخذت تفرض نفسها في السنوات الأخيرة في التحوّل نحو اليمين الذي يدعم "الهويّات الوطنية" على حساب الاتحاد الأوروبي. هذه الظاهرة صارت تحمل "ماركة الترامبيّة" لأنّ السوق الأميركية تبقى الأشهر عالمياً، لكنّ عند أوروبا نسخاً متقدّمة ولا تقلّ تطرّفاً أبداً. إنّها عولمة من نوع آخر، عولمة رفض الآخر ورفض الاندماج.