: آخر تحديث

العجمي الوريمي.. والبحث عن نهضة أخرى

11
10
10

عندما يتحدث الأمين العام الحالي لحركة النهضة العجمي الوريمي فإن أغلب الفاعلين السياسيين ينصتون إلى ما يقول نظرا لطبيعة علاقاته المتوازنة مع مختلف التيارات الفكرية والحزبية، وانطلاقا من أنه يمكن أن يأتي بخطاب مختلف عن خطاب القيادة السابقة، وربما أكثر عقلانية مما كان سائدا لدى الصف الأول من قيادات الحركة، وهو ما يشير إلى إمكانية تدشين تجربة جديدة تنطلق أساسا من مراجعة فكرية وسياسية عميقة للتنظيم، ومن الاعتراف بأخطاء الماضي والقطع معها، والتسليم بوجود واقع جديد يستند إلى إرادة شعبية جارفة تجد في مشروع الرئيس قيس سعيد فضاء للسكينة والطمأنينة بعد سنوات الصخب والخوف والفوضى التي عرفتها تونس منذ العام 2011 وحتى 25 يوليو 2021.

أشار الوريمي إلى التوقعات والتخمينات والقراءات حول مستقبل الإسلام السياسي وحول حركة النهضة التي باتت تنسب نفسها إلى الإسلام الديمقراطي، تراوحت بين من يقول بنهاية هذه الحركات وتراجعها التاريخي، وبين من يرشحها لأدوار مستقبلية مع غيرها من الأحزاب ذات الحضور والوزن والتأثير، وأن “هناك دعوات للنهضويين ومنهم للقيام بمراجعات تطال الأسس الفكرية والخط السياسي والخيارات الكبرى وتشمل الاسم والواجهة والخطاب والمنهج”، وهو بذلك يقترب من لحظة مغادرة دائرة الإنكار، ودخول مرحلة الاعتراف بالأخطاء التي انبنى عليها مشروع الحركة منذ ظهورها للعلن في بداية ثمانينات القرن الماضي كتنظيم سياسي يطرح نفسه بديلا لنظام الحكم، والتي احتدم حولها السجال بعد 2011 بين مستعدين للمراجعة الفكرية وبين من لا يرون موجبا لها.

وقد اتسعت دائرة الجدل بين نهضويي الخارج الذين ارتبطوا بأجندات إقليمية ودولية وحاولوا تجيير تحولات الربيع العربي في تونس لفائدتها، وبين نهضويي الداخل الذين تطغي عليهم خصوصية الشخصية التونسية وقدرتهم على التكيف مع إكراهات الواقع ومتطلباته، ومن بينهم الوريمي ذاته الذي يتابع الأحداث عن قرب، ويحاول قراءتها بمعزل عن الدوافع العقائدية البحتة، ويصل من وراء تلك القراءة إلى الاقتناع بأن الوضع اليوم ليس كما كان عليه قبل خمس أو عشر سنوات، وبأن النخب السياسية فقدت شرعية بفقدانها شعبيتها، وأن الشارع أصبح شارع قيس سعيد، وأن أيّ محاولة لتجاهل هذا الواقع أو القفز على هذه الحقيقة لن ينتج عنها إلا المزيد من الضياع والفشل، لاسيما أن هناك معطيات مهمة يقف عليها الوريمي بقوة.

أولا: تدرك قيادة حركة النهضة أن الوضع الداخلي والخارجي لم يعد ملائما لتبني التطلعات الكبرى والطموحات الواسعة، لاسيما أن الجميع قد تخلى عنها تقريبا، وأن فكرة التنظيم الحزبي في حد ذاتها لم تعد تغري التونسيين، كما أن خطاب الإسلام السياسي فقد بريقه ولم يعد يجد آذانا صاغية بعد أن أثبت أصحابه أنهم لا يختلفون عن غيرهم من التيارات الفكرية والسياسية في البلاد من حيث المنفعية والأنانية والركض خلف المصالح الشخصية والأسرية والفئوية حتى أصبح الوضع أقرب ما يكون إلى الكوميديا السوداء، وخاصة في علاقة بالوعود الانتخابية وتحالفات المصالح مع هذا الطرف أو ذاك.

ثانيا: توصلت الحركة إلى استنتاج مهم، وهو أن الكثير من ملامح الهالة السياسية والإعلامية التي كانت تحيط بقيادتها التاريخية حتى 25 يوليو 2021 لم تكن في الحقيقة سوى أوهام صدقها جانب كبير من أصحاب القرار والرأي في تونس ممن اعتقدوا أنها خط أحمر وأنّ لا أحد يستطيع الوقوف في طريق مشروعها السياسي والثقافي، وأنها تحظى بالحماية والدعم غير المحدود من عواصم كبرى.

ثالثا: تبين للمراقبين، أن أغلب أبناء الحركة قد تملصوا منها بشكل غير منتظر، وخاصة أولئك الذين استفادوا خلال سنوات الحكم والنفوذ من التعويضات والتسهيلات في دخول أسواق المال والأعمال وإطلاق المشاريع أو الحصول على وظائف مهمة في مؤسسات الدولة، أثبتت التجارب دائما أن حركات الإسلام السياسي تستفيد ممن ليس لهم ما يخافون عليه، أما من وصل إلى مرتبة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي فمن الصعب أن يغامر ويضع مصالحه ومكاسبه في دوامة الخطر.

رابعا: تأكد لحركة النهضة أن السنوات العشر التي سبقت الإطاحة بها حملت لها الكثير من المؤشرات حول تراجع موقعها في البلاد بسبب فقدانها نسبة كبيرة من خزانها الانتخابي حتى أنها كانت في طريقها إلى فقدان ثقة التونسيين كما حصل مع حزب “العدالة والتنمية” المغربي في انتخابات 2021.

ففي أكتوبر 2011 تصدرت الحركة نتائج انتخابات المجلس التأسيسي بحصولها على 89 مقعدا من أصل 217 مقعدا، وبنسبة 37.04 في المئة من الأصوات. وفي تشريعيات 2014 تراجع عدد الأصوات الممنوحة للحركة لتحصل على نسبة 27.79 في المئة، كما تراجع عدد المقاعد إلى 69 مقعدا. وفي تشريعيات 2019 تفاقمت أزمة الحركة لتحصل فقط على 19.55 في المئة من مجمل الأصوات، ولعدد مقاعد لم يتجاوز 52 مقعدا.

وقد كانت نتائج النهضة مرشحة لحالة من الانهيار والفشل الذريع في أيّ موعد انتخابي مرتقب بعد أن فقدت المناصرين والطيف المحافظ الذي اتجه لدعم مشروع الرئيس قيس سعيد.

خامسا: تتحمل حركة النهضة الجزء الأكبر مما تعرضت له خلال السنوات الثلاث الماضية، فهي التي سعت بكل جهدها لاختراق الأحزاب السياسية المنافسة ولتخريبها من الداخل كما فعلت مع حليفيها في 2011 المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي للعمل والحريات، ومع شريكيها بعد 2014 نداء تونس بقيادة الباجي قائد السبسي والاتحاد الوطني الحر بقيادة سليم الرياحي، وتآمرت على أغلب الفاعلين على الساحة وسعت إلى شيطنتهم من خلال وسائل الإعلام والجيوش الإلكترونية التي كانت تسير في ركابها، ثم دخلت بعد تشريعيات 2019 في مواجهات مفتوحة مع “قلب تونس” لنبيل القروي والتيار الديمقراطي لمحمد عبو والحزب الدستوري الحر بزعامة عبير موسي، وكانت تعمل على التغلغل في مفاصل الدولة، وعلى إقناع الرأي العام الداخلي والخارجي بأن لا أحد يستطيع اتخاذ أيّ قرار في البلاد إلا بالرجوع إليها، كما كانت لديها قناعة بأن لا أحد يستطيع إقصاءها من الحكم إلى أن كان سقوطها المدوّي من خلال حل حكومة هشام المشيشي وتعطيل البرلمان قبل حلّه وإلغاء دستور 2014 ودخول البلاد نحو مرحلة جديدة من تاريخها ذات أسس ترتكز على مشروع قيس سعيد الذي طالما اعتقدت قيادة الحركة أنه العصفور النادر الذي كانت تبحث عنه.

سادسا: قال الوريمي إن “همّ النهضة الأول هو عودة الديمقراطية، وليس عودتها هي كحزب إلى الحكم، وهي تعتبر أن الخطر الذي ينبغي على القوى الديمقراطية والوطنية (من معارضة وموالاة) التعاون لتفاديه وتجنيب البلاد الوقوع فيه، هو البديل الفاشي والفوضوي، أي كل خيار يقسم التونسيين أو يقصي قسما منه”. عليه ألا ينسى أن الحركة وقعت في فخ الاصطفاف الفكري والعقائدي والسياسي الذي عملت على تكريسه بتقسيم التونسيين إلى ثوار وأزلام، ومؤمنين وعلمانيين، وإلى أحفاد المقاومين وأحفاد عملاء فرنسا، وإلى مناصري العربي وأعدائه، وحتى عندما تظاهر قادتها بتبني خيار المصالحة الوطنية، كانت ماكينتها السياسية والإعلامية منخرطة في سياسة المحاور داخليا وخارجيا، وتبين ذلك بالخصوص من خلال مواقفها من الأحداث في ليبيا وسوريا ومصر وانحيازها الكامل لتركيا وقطر ومنظومة الإسلام السياسي بصفة عامة، لتؤكد وظيفتها العقائدية كفرع محلي لتنظيم الإخوان المسلمين رغم محاولاتها نفي ذلك في مناسبات عدة.

حاليا بات من العبث الحديث عن تلك التصنيفات الداخلية أو المحاور الخارجية، فكل شيء قد تغيّر، وتم إغلاق قوس الربيع العربي، وأيّ حديث عن إمكانية هبوب موجة ثانية لا يخرج عن دائرة التمنيات التي لم يعد هناك مجال لتحقيقها.

اعتبر الوريمي أن المعارضة “لم تخطئ عندما اعتبرت ما وقع انقلابا على الشرعية وانحرافا بالسلطة وتعسفا في التأويل قاد إلى خرق الدستور الذي لم يكن يسمح في حالة الاستثناء بحل البرلمان وحجب الثقة عن الحكومة. وعوض تضامن السلطات وبقائها في حالة تأهب وانعقاد دائم لمجابهة المخاطر، اختصرها الرئيس قيس سعيد في شخصه وسلطاته وصلاحياته التي أصبحت مطلقة”. كان عليه أن يعترف بأن الأغلبية الساحقة من الشعب لا تتبنى هذا الموقف، وهي تدعم التدابير الاستثنائية للخامس والعشرين من يوليو 2021 وترى فيها خيارا سليما وعقلانيا وواعيا وضروريا للخروج بالبلاد من أزمتها الخانقة التي وقعت فيها نتيجة فشل النخبة وعبثية الأحزاب وتراجع أداء الدولة ووقوعها بين شبكات الفساد وعصابات تزوير الوعي ولوبيات التبعية لمحاور الصراع الإقليمي والدولي على النفوذ.

يقول الوريمي “إن إحساس المواطنين بأن الانقلاب لم يحدث القطيعة مع الأزمة السابقة ولم يرتق بالأوضاع القائمة بل فاقم المعاناة ولم يبرهن على القدرة على إحداث تغيير طال انتظاره، خلّف لديهم قناعة بأن أولوية الحكم غير أولويتهم وأن مطالبهم ليست الأولى في اهتماماته، فهو مسكون بهاجس تغيير منظومة الحكم، وهم منشغلون بتغيير أوضاعهم، وهو تهمه الهندسة الدستورية، وهم يطلبون توفير الشغل والمواد الأساسية وخفض الأسعار وتحسين الخدمات وتوفير المرافق الحياتية من نقل وصحة وتعليم”. لكن هذا الرأي لم يجد ما يسنده على أرض الواقع، حيث لم تنجح المعارضة في دفع التونسيين للخروج إلى الشارع ولا في تأليبهم على النظام القائم أو تحريضهم على التمرد، وإذا كانت هناك نقائص عدة على مستويات مختلفة، فإن الثابت أن الرئيس سعيد استطاع إقناع الشارع بوجهة نظره، وبأن الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد إنما هي نتيجة عشر سنوات من الفوضى والخراب ونهب المال والتلاعب بمصالح الدولة والمجتمع .

وأما بالنسبة إلى ما ورد على لسان الوريمي من أن مؤسسات حركة النهضة “لن تنافس على السلطة ولن تدفع بمرشح حزبي، حتى وإن كان ذلك من حقها”، فهو دون شك نتاج قراءة مستفيضة للواقع، حيث أن الحركة تعلم حجم خزانها الانتخابي وتدرك أنها غير قادرة على المنافسة على منصب الرئيس، وأن في الوضع الحالي لا يوجد من يستطيع منافسة الرئيس سعيد على أصوات الناخبين في أيّ استحقاق قادم، نظرا إلى أن الشعب في غالبية الساحقة يصدقه ويرى فيه الخيار المناسب لقيادة المرحلة والخروج بالبلاد من مخلفات سنوات المتاهة التي مرت بها.

يحتاج الوريمي إلى الكثير من الجرأة من أجل إطلاق نهضة مختلفة عن النهضة التي جربوها في المعارضة والحكم وفي السر والعلن، نهضة تنسجم مع هويتها الوطنية، وتعمل على أن تكون تونسية قلبا وقالبا، وأن تستفيد من أخطاء الماضي بأن تكون محل ثقة من شركائها وحلفائها، وأن تتجاوز مرحلة التصنيف الأيديولوجي إلى مرحلة التنافس على برامج سياسية واجتماعية من داخل إطار التوافقات الوطنية وليس من براح التناقضات الفكرية والعقائدية التي أثبتت أنها تبدد ولا تصون، وتهدم ولا تبني، وتفسد ولا تصلح.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد