: آخر تحديث

النقد الذاتي بعد الهزيمة: أو اللحظة التي لن تُعاد

11
11
12

هل «النقدية» يُفترض بها أن تكون مؤجلة بالضرورة إبان الحروب إلى ما بعد انقضائها؟ النموذج المشتهر في السابق، في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ومداخلة الفكر بصدده، كان نموذج «النقد الذاتي بعد الهزيمة».

كما لو أن النقد لا يستمد شرط إمكانه، بل مشروعيته، إلا من حصول واقعة الهزيمة، ولا تكون له وجاهة أو لا يظفر بمتسع وظرف موافقين له إلا تحت أثر الصدمة القاسية وتساقط الشعارات وانتحاب الحماسة.

وكما لو أن محور هذا النقد الذاتي هو سحب البساط من تحت المكابرة على الطابع العميق، البنيوي، للهزيمة، من بعد حصولها، ومن ثم اجتراح شيء آخر غير التخبط بها والإحباط واللوعة والعبث.

فالنقد، لئن تأخر في هذه الحالة وانتظر الهزيمة ليعقب عليها إلا أنه سيصر بعد ذلك على أن الهزيمة ما كانت «بنت ساعتها» وأنها مسار طويل. وهذه في كل الحالات مفارقة يندرج ضمنها العمل الريادي لصادق جلال العظم في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الصادر في إثر «نكسة» 1967.

والفكرة فيه لا تفسر من دون لحظ غربة الأنظمة العربية المصنفة «تقدمية» عن الثقافة العلمية وأدواتها، ما أدى من ثم إلى النظر الى «السلاح» كأداة فحسب، كما لو أن التكنولوجيا المنتجة له والذي هو منها لم تكن وليدة طفرة في عالم التفكير والمعرفة، ولا يمكن للسلاح أن يؤدي غرضه بإدارة الظهر لهذه الطفرة «المعرفية – الذهنية» التي أوجدته.

وقد استتبع العظم نقده هذا بكتاب «نقد الفكر الديني» 1969 الذي سلط الضوء، من جملة ما سلط، وبالتوازي مع الوقوف على مفارقات العقل الديني وتعارضاته الداخلية في «مأساة إبليس» على احتياج النظام الناصري لاستحضار الغيبيات والمعجزات بعد الهزيمة التي مني بها، بدلا من الانكباب بجدية على محاولة فهم الأسباب الموضوعية – التاريخية للهزيمة التي لحقت به وبالعرب عام 1967.

المفارقة أن خطاب العظم آنذاك خلط بشكل أو بآخر بين غربة النظم «التقدمية» العربية عن المنظار العلمي وبين إرجاع هذه الغربة إلى أسباب مديدة «فوق سياقية» متصلة بالبنى الثقافية – الأنثروبولوجية العميقة لهذه المجتمعات، وهو ما حاول العظم توريته جزئيا بالمنظار الماركسي اللافت إلى نكوص البنى الاقتصادية الاجتماعية.

إنما المشكلة على مستوى الثقافة العلمية أو على مستوى نمط الإنتاج وغياب الطبقة الثورية لم تكن عنده إلا ممرا لإعادة المشكلة إلى البنى الثقافية، واستمرار سطوة المخيال الديني عليها، الأمر الذي يطرح بدوره الإشكالية المقابلة: لأن إرجاع الهزيمة العسكرية القومية إلى مشكلة في العقل الديني المرابط حتى من وراء برقع الأنظمة الثورية هو أيضا توسيع لما يمكن للعقل الديني أن يتسبب به، وليس من السهل مصالحة هذا المنظار مع الموقف المنتصر للوعي المادي – العلمي.

عام 67 كان هناك إجماع على أنها هزيمة، ثم اختلف الرأي بين من رآها انتكاسة ظرفية مهما اشتدت، وبين من أرجعها إلى البنى وأنماط الإنتاج والعقلية والمخيال والتراث

رغم ذلك، كانت أهمية نقد العظم «الذاتي بعد الهزيمة» في لحظته، وهي لحظة كانت صاخبة بل حيوية فكريا، إذ يمكن رؤية «النقد الذاتي بعد الهزيمة» بمعنى أوسع في نتاجات ياسين الحافظ ومهدي عامل في المشرق، وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري في المغرب، وسواهم. هذا سعى إلى استنطاق الهزيمة في «الأيديولوجية المهزومة» مقابلا بينها وبين أيديولوجية كفاحية قادرة على النصر في حال فيتنام، وذاك من خلال «نمط الإنتاج الكولونيالي» وتعبيته البنيوية التي لا قدرة لأنظمة البرجوازية الصغيرة الثورية على كسرها (مهدي عامل) في الوقت الذي عاد فيه العروي والجابري إلى خلفيات طويلة المدى، ترتبط بالتطور التاريخي المعوج للشعوب العربية في الألف عام الأخيرة، أو بهزيمة أهل البرهان على يد النظرة العرفانية – الصوفية إلى العالم (في حالة الجابري). من الافتئات على كل هذه الأسماء عدم قراءة كل ما كتبته إلا كنقد بعدي – ذاتي من الهزيمة، لكن هذا الهم هو فيها بمثابة حجر الزاوية. الظاهر في المقابل، أن اللحظة «الفكرية» المختلفة المستويات والرؤى التي انتجتها هزيمة 67، والتي لا يمكن استبعاد «الثابت والمتحول» لأدونيس أيضا منها، وفيه يمكن أن نرى «الرقم القياسي» في الإيغال بالقدم، بهذه الهزيمة، إلى عصر ما قبل الفتوحات حتى! وأدونيس يقدم هنا حالة كاشفة لمجمل «المبالغة» التي سادت الفكر والثقافة العربيين بعد هزيمة 67. فالكلام عن العمق البنيوي والخلفية المديدة للهزيمة كان فيه إسراف بالنتيجة. وكان فيه إخلال بالقدرة على التعامل مع «عادية» الهزيمة بالنسبة إلى بلد كمصر لم يكن قد مضى عقدان بعد على خروجه من ربقة الاستعمار البريطاني.

الهزيمة كانت لها خلفيات «عميقة» وبنيوية نعم، لكنها كانت «عادية» أيضا في حين جرت المبالغة في التعامل معها كهزيمة «ميتافيزيقية» و«ابستمولوجية» في مقال الناقدين الفكريين لها، ولو أن ذلك أثمر حيوية حميدة على مستوى تشغيل الأسئلة والإبحار في غير ميدان تقفيا للإجابات.

ظهر في المقابل أن «دينية الصراع» التي كانت تكبتها الأنظمة ذات اللفظة الأيديولوجية التقدمية زادت من بعد ذلك ولم تنقص، وأن دور «العرفان» الذي ساجل ضده الجابري اشتد بعد ذلك بدلا من أن يفتر.

لكن ما حصل أيضا هو مغادرة ليس فقط لحقبة الحروب بين الجيوش النظامية، بل أيضا لحقبة الحروب المحسومة في بضعة أيام. ستة أيام عام 1967 كانت كافية لتوليد موجهة «مراجعة فكرية» بعدها حبرت لها آلاف الصفحات. لكن ما الحال حين يكون الصراع «دينيا» أكثر، مقرونا بالغيب أكثر، وممتدا في الزمن أكثر، والأخطر من كل ذلك، ألا يتبلور فيه معيار جدي لتحديد ما الانتصار وما الهزيمة. عام 67 كان هناك إجماع على أنها هزيمة، ثم اختلف الرأي بين من رآها انتكاسة ظرفية مهما اشتدت، وبين من أرجعها إلى البنى وأنماط الإنتاج والعقلية والمخيال والتراث. اليوم، أو منذ وقت، لم يعد التمييز بين ما يمكن أن يعنيه الانتصار وما يمكن أن تعنيه الهزيمة متوفرا بهذا الوضوح، ولم يعد للهزيمة «قبل وبعد» إلا بالنسبة لمن يرسمون سيناريوهات مستعجلة عن «اليوم التالي»… وما عدنا نعرف هو اليوم «التالي» لمن.

في كل هذا، يتشكل «إجماع سلبي» سواء ممن يستعجل إعلان الهزيمة بشكل مسبق، أو ممن ليس له محفز سوى الاحتفاء بالانتصار دائما، وكل مرة بمعيار مختلف، وبعد أن يكون قد استبعد عن طقوس النصر سؤال الكلفة هنا، والجدوى أو التبعات هناك. هو الإجماع على تعطيل أي تفكير نقدي، بل أي مسافة عن الأحداث الجارية تتيح للذهن الاتصال بها من دون تعطيل مداركه. إنه كبح الحاجة للاحتراز والروية.

ولأجل هذا يمكن التشاؤم من الآن بأن حظوظ تولد موجة فكرية عربية حيوية من بعد الحرب الحالية أو في إثرها هي أقل بكثير من الحظوظ التي أفسحت المجال إلى ذلك بعد حرب 67. أو لنقل إن الأمور باتت أكثر صعوبة، لا سيما إذا ما أريد لسؤال النقد ألا يكرر الاجتهادات الحاصلة يمينيا ويسارا، مشرقا ومغربا بعد 67.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.